المعلمون.. رسالة تدفعهم ومعاناة تطحنهم
خالد العاصي خالد العاصي

المعلمون.. رسالة تدفعهم ومعاناة تطحنهم

يقف المعلم ساعاتٍ طوال أمام الطلبة حاملاً مهمّات تكاد تكون أشبه بالمعجزة لمن استطاع القيام بها على أتم وجه، وخاصة في ظل الظروف الصعبة التي تفرض نفسها عليه، معيشياً وخدمياً، بل ونفسياً أيضاً.

يُطلب من المعلم ضبط الصف، والسيطرة على شغب بعض الطلاب، بالوسائل والأساليب التربوية طبعاً، وذلك من أجل تسهيل مهمته للقيام بدرسه في وقتٍ قياسي هو خمسٌ وأربعون دقيقة، من المفترض أن تتضمن إيصال المعلومة المطلوبة والتأكد من فهمها من قبل جميع الطلاب، بغضّ النظر عن تباين مستوياتهم، فهذه أيضاً جزء من المهمات، ولكم أن تتخيلوا مقدار تناسب الوقت المخصص للحصة الدرسية مع المهام المطلوب إنجازها خلاله، وخاصة مع المناهج الجديدة وطرائقها، ومع وجود 40 طالباً وربما أكثر في الشعبة الصفية.

واقع وإمكانات ومهمات

الأمر بالنسبة للمعلم لا يقف عند حدود المعاناة من الصوت المبحوح وذلك لاضطراره إلى رفعه بسبب الضوضاء ودروس الرياضة في باحة المدرسة، هذا إن كانت الشعبة الصفية منضبطة أصلاً، حيث لا يكاد ينتهي من معركة الضبط والسيطرة لتفتح المعركة الدرسية وفقاً للمنهاج المقرر، الذي يبدو بعيداً عن واقع الطلاب وظروفهم وإمكاناتهم، والحديث هنا ليس عن الإمكانات الذاتية للطلاب بقدر الحديث عن الظروف الموضوعية التي يعيشونها مع أسرهم في ظل الواقع الاقتصادي المعيشي القاسي على الجميع، كما هو بعيد عن واقع وإمكانات المدارس وتوزيع الشعب الصفية وأعداد الطلاب فيها، وهذا ليس كلاماً من باب المبالغة، بل من باب الواقع نفسه، فالمناهج الجديدة وطرائقها ومستلزماتها لا تتناسب مع واقع وإمكانات المدارس.
ومع ذلك فإن المعلم يسعى جاهداً كي يُمكِّن الطلاب من مهاراتهم وفقاً لمعطيات المناهج ومضمونها قدر الإمكان والمتاح من إمكانات متوفرة، والتي يتكبد عليها بعض المعلمين نفقات إضافية من جيوبهم وعلى حسابهم كي يؤدوا دورهم ومسؤوليتهم ورسالتهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل معلم ملزم بـ 19 ساعة درسية أسبوعياً بالحد الأدنى، وبالنسبة لمعلمي الحلقة الأولى في التعليم الأساسي أكثر من ذلك.
أما الاستثناء الذي من الممكن أن يستشهد به البعض عن لامبالاة بعض المعلمين أو تراخيهم أو عدم تمكنهم، وما إلى ذلك مما ينسب لهؤلاء القلة، فهو الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها، فغالبية المعلمين يقومون بمهامهم ويؤدون رسالتهم باذلين من أجل ذلك كل الجهود والطاقات والإمكانات، وغالباً ما يقوم هؤلاء وبجهود ذاتية بتذليل الكثير من الصعوبات التي تواجههم من أجل استكمال مهامهم، ولو على حسابهم، وهذا ليس شكل من أشكال المبالغة بقدر ما هو توصيف واقعي يمارسه الغالبية من المعلمين والمعلمات في مختلف المدارس وبمستوياتها المختلفة.

مزيد من الإنهاك

هذا الانهاك والجهد لا ينتهي مع نهاية الدوام المدرسي بالنسبة للمعلمين، فغالبية هؤلاء يعملون أعمالاً إضافية بعد ساعات الدوام الرسمي من أجل الحصول على أجر إضافي يسد رمق معيشتهم بالحدود الدنيا، في ظل واقع الأجور المتدنية مقارنة مع مستويات الأسعار والمتطلبات المعيشية، وهم على ذلك حالهم كحال جميع العاملين بأجر الذين يعانون من تردي الأوضاع المعيشية عموماً.
جزء لا بأس به من المعلمين يسعون إلى العمل باختصاصهم، سواء عبر التدريس في بعض المعاهد التعليمية الخاصة لعدة ساعات أسبوعياً، وهؤلاء قلة جداً، أو في الدروس الخصوصية، وهؤلاء من المحظيين بحال حصلوا عدة ساعات درسية في الأسبوع، والبقية الباقية يعملون في مهن لا علاقة لها باختصاصهم حسب المتاح والمتوفر في سوق العمل اضطراراً، ليصل المعلم بنهاية يوم عمله مرهقاً ومنهكاً، ومع ذلك فهو مطلوب منه أن ينجز بعض المهام الإضافية ليلاً من أجل يوم عمله في الصباح التالي، مثل تحضير دروس اليوم التالي، وإعداد الأسئلة ووضعها سواء للمذاكرات أو للامتحانات، بالإضافة إلى عمليات التصحيح والتقويم والمحصلات، وغيرها من المهام الكثيرة الأخرى التي لا يقل الجهد لقاء إنجازها ما بعد ساعات الدوام عن الجهد خلال الدوام.

استنزاف ونتائج

هذه الطاقة المستنزفة يومياً حتى الرمق الأخير بالنسبة للمعلمين تظهر تداعياتها السلبية مع مرور الوقت والزمن، وخاصة على مستوى تردي الوضع الصحي لهؤلاء، فهذه المهنة المرهقة لها آفاتها وأمراضها المهنية الكثيرة، اعتباراً من بحة الصوت وأمراض الحنجرة والجهاز التنفسي، مروراً بأمراض الرقبة والعمود الفقري والهيكل العظمي عموماً، وليس انتهاءً بالأمراض العصبية، وصولاً للضغط النفسي وتداعياته ونتائجه الوخيمة، وكل ذلك طبعاً يتبعه الكثير من الإنفاق والتكلفة والعبء المادي المضاف إلى الأعباء الكبيرة الموجودة سلفاً.
أما الأكثر أهمية من حيث النتائج السلبية بنتيجة تراكم هذا الإرهاق مع تداعياته المرضية فهو الوصول إلى حال التراجع في الأداء من قبل بعض المعلمين على مستوى المهام والرسالة المتوخاة، والتي يدفع ضريبتها الطلاب بالنتيجة، والتي تقف عندها الإدارات والمسؤولون التربويون في الحلقات الأعلى من بوابة المتابعة والمحاسبة والعقوبة، كما يقف عندها ذوو الطلاب من بوابة تحميل المسؤولية والمعاتبة بالحد الأدنى، لتشكل مع كل ما سبق عبئاً إضافياً على عاتق المعلم المنسي بمعاناته وهمومه وظروفه.
لا شكَّ أن المهمات الملقاة على عاتق المعلمين تعتبر كبيرة، وهي كذلك إذا ما قرناها برسالتهم الأسطورية المتوخاة افتراضاً، لكن في ظل هذا الواقع المهني المستنزف والمعيشي الضاغط، وفي ظل اللامبالاة الرسمية تجاه حقوق هذه الشريحة الكبيرة ومعاناتها، كما غيرها من الشرائح الاجتماعية المفقرة الأخرى، وبعيداً عن الخوض بالحديث عن السياسات التعليمية بما لها وما عليها، أو بالمناهج «الجديدة» والملاحظات عليها، لا غرابة في السؤال: إلى أين تريد الحكومة الوصول بهذه الشريحة ومهامها ورسالتها في ظل استمرار ظروف الإنهاك التي تطالها وتطحنها، معيشياً وصحياً؟.

معلومات إضافية

العدد رقم:
936
آخر تعديل على الإثنين, 21 تشرين1/أكتوير 2019 13:41