الحرائق غير مفاجئة وعامل الطبيعة متهم «لبّيس»!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الحرائق غير مفاجئة وعامل الطبيعة متهم «لبّيس»!

جريمة جديدة تطال مساحات واسعة من الغابات والحراج والأراضي الزراعية حرقاً خلال الأسبوع الماضي في أربع محافظات دفعة واحدة (حمص- حماة- طرطوس- اللاذقية)، وعلى مدار عدة أيام بلياليها، مع تسجيل العديد من الضحايا والإصابات بسببها، بالإضافة إلى الأضرار المادية وفي البنية التحتية، وكما العادة كانت الرياح هي المتهمة الرئيسة بتعاونها مع الجفاف في هذه الكارثة المتجددة سنوياً.

المفاجأة أنه لا مفاجأة في الأمر! فتوقيت اشتعال الحرائق وانتشارها واتساع رقعتها بات معروفاً، حيث تتكرر هذه الحرائق على شكل مسلسل سنوي يبدأ مع بداية فصل الخريف وينتهي مع بداية فصل الشتاء من كل عام، والمفاجأة الأكبر غير المفاجئة أيضاً هي أن الاستعدادات لمواجهة الحرائق لم تتغير، أما الأمر الذي بات متفقاً عليه فهو أن عوامل الطبيعة «لبّيسة» وهي قابلة أن تتحمل أوزار الجريمة والتقصير، كي يستمر المسلسل.

المجرم الشبح

لن نخوض بتفاصيل الحرائق الأخيرة وأماكن انتشارها وتواريخ اشتعالها، كما لن نستفيض بنتائجها الكارثية على الاقتصاد والبيئة والإنسان والمستقبل، فقد سبق وأن أشبعت جميع هذه الجوانب تفنيداً وتفصيلاً بشكل أو بآخر خلال العقود الماضية، وخلال السنين الأخيرة، ومع كل حريق ينشب في الغابات والحراج والأراضي الزراعية، سواء عبر صفحات قاسيون أو عبر وسائل الإعلام الكثيرة الأخرى وبجميع أنواعها، المقروءة والمرئية والمسموعة، لكن ما يجب التركيز عليه، هو أن هذه الجريمة المكررة ما زالت مستمرة، كما ما زال التعامل معها قاصراً على عمليات الإطفاء فقط، مع تحميل وزرها لعوامل الطبيعة والظروف الجوية والمناخية، مع الإشارة إلى بعض أوجه الإهمال بما يخص العامل البشري في بعض الأحيان، وفي حالات نادرة تتم الاشارة إلى مفتعلي الحرائق وكأنهم أشباح من كوكب آخر، والأهم أنه حتى في حالات توجيه الاتهام للبعض من هؤلاء لا أحد يعلم مآلات التحقيق معهم، وهل وصلت إلى مبتغاها، ليس على مستوى الوصول لمشغليهم والمستفيدين منهم فقط، بل ولمن قام بالتغطية على أعمالهم والتستر عليهم فساداً وتكسباً، فهؤلاء جميعاً يعتبرون شركاء بالجريمة، بل دورهم أهم وأكبر من مفتعلي الحرائق أنفسهم، حيث غالباً ما يضحى بهؤلاء بكل سهولة طبعاً بمقابل درء توجيه التهمة للمجرم الحقيقي الذي سخرهم لخدمته وسهل عملهم.

استسهال الجريمة

الحديث عن فاعلين ومستفيدين من هذه الحرائق ليس جديداً، وخاصة على ألسنة الأهالي في القرى والبلدات المحاذية لمناطق اشتعال الحرائق سنوياً، فهؤلاء الأهالي غالباً ما يشيرون إلى تجار الفحم والحطب، بالإضافة إلى تجار الأراضي والعقارات والمستثمرين بالتعاون مع الفاسدين، إلى أنهم المستفيدون من الحرائق التي تلتهم الغابات والحراج، كما تظهر بين الحين والآخر بعض التصريحات الرسمية التي تتحدث عن أن بعض الحرائق كانت بفعل فاعل، مع الإشارة ضمناً إلى شريحة من المستفيدين منها، ولكن غالباً يبقى كل ذلك «ضد مجهول» أو بسبب عوامل الطبيعة، وكفى الله المؤمنين القتال، فيفلت الجاني والمحرض والمستفيد من العقاب، وتستمر الجريمة على حساب التهام المزيد من غاباتنا وحراجنا وأراضينا الزراعية.
تعليقاً على الحرائق الأخيرة، وبحسب إحدى الصحف المحلية شبه الرسمية في تاريخ 16/10/2019، أكد قائد فوج إطفاء حمص أن: «سبب تلك الحرائق بفعل فاعل نتيجة لوجود عدة حرائق متناثرة ومنفصلة في مناطق مختلفة ومعظمها في المناطق الحراجية التي يتعذر الوصول إليها بآليات الإطفاء، كاشفاً أن هذه الحرائق تتكرر في كل عام في نفس هذا التوقيت، وهذا يدل على وجود فاعل وخاصة أصحاب النفوس الضعيفة ممن يستفيدون من احتراق هذه الأشجار في عمليات التفحيم..».
وبحسب نفس الصحيفة في تاريخ 20/10/2019، أكد مدير الحراج في وزارة الزراعة أن: «الحرائق التي تعرضت لها الغابات بالمحافظات الساحلية والوسطى لم تكن ناجمة عن البيئة أو درجات الحرارة وإنما كانت بفعل بشري مقصود..».
إن استمرار تكرار الجريمة بحد ذاته، بحيثياتها وتواريخها وأماكنها، يعتبر مؤشراً على استسهالها من قبل المجرمين، سواء كانوا مفتعلي الحرائق الأصليين أو من حرضهم ودفعهم وتستّر عليهم واستفاد من نتائج أعمالهم، ولعل السرد السابق يعتبر تعداداً لعناصر الجريمة وأركانها بالمعنى القانوني، حيث تتوفر هذه الأركان (القانوني- المادي- المعنوي) مجتمعة في جرائم الحرائق التي تطال الغابات والحراج والأراضي الزراعية كل عام، أي إنها جرائم مكتملة الأركان، ومع ذلك فإن الجاني ما يزال «مجهولاً» غالباً.

الفساد واللامبالاة شركاء الجريمة

ورد في «قاسيون» في تاريخ 6/8/2010 مادة بعنوان «مسلسل حرائق الحراج والغابات يقرع الأبواب بشدة»، استعرضت خلالها بعض ما تم توثيقه من حرائق خلال شهر تموز الماضي، ومما ورد في المادة: «إن الحرائق أعلاه تُعتبر مقدمة للمسلسل السنوي الذي سيمتد طيلة الشهور القادمة وصولاً إلى بداية فصل الشتاء، وفي ظل هذه المقدمة من الحرائق الكثيفة عدداً والمتسعة مكاناً فمن المتوقع أن تكون الحلقات القادمة منها أكثف وأوسع، خاصة وأن واقع التعامل مع الحرائق بمسلسلاتها السنوية لم يتغير في ظل محدودية الإمكانات المتاحة لفرق الإطفاء (كادرات- تجهيزات- آليات..) واللوجستيات المتوفرة (طرق- ممرات..)، مع عدم إغفال ما يتعلق بضبط الفاعلين المستفيدين والمتكسبين من بعضها في حال ثبوت أنها مفتعلة، وهو ما درجت عليه أقوال وأحاديث ومطالب الأهالي في تلك المناطق»، وختمت قاسيون مادتها بالتالي: «هل من الممكن أن نشهد تلك التحولات الضرورية بالنظر إلى مشكلة الحرائق من قبل المعنيين والمسؤولين على أنها أصبحت خطراً داهماً وكارثياً، وبما يؤمن المتطلبات الكفيلة بالحد منها بداية وصولاً إلى عدم انتشارها وإخمادها، من أجل الحفاظ على ما تبقى من الأحراج والغابات وما فيها من كائنات، أم أن الحال سيبقى على ما هو عليه من تآكل سنوي للمساحات الحِراجية وللغابات، وللخسائر غير القابلة للتعويض، وكأن المعنيين غير معنيين!».
لنصل إلى السؤال الذي يفرض نفسه: ما هي الاستعدادات والاحتياطات التي تم اتخاذها، سابقاً وحتى الآن، منعاً من استمرار تكرار هذه الحرائق «الجريمة»، خاصة وأن مواعيدها ثابتة، وكذلك مناطقها المستهدفة، وغاياتها، بل وربما بعض المستفيدين منها؟.
ففي كل مرة ومع كل حريق، بغض النظر عن حجمه ومكانه، يجري الحديث عن المشاكل والصعوبات التي تواجه عناصر الإطفاء والدفاع المدني في عملهم وخلال مواجهتهم للحرائق، اعتباراً من المشاكل المرتبطة بالآليات والتجهيزات وليس انتهاءً بالمشاكل والمعيقات المرتبطة باللوجستيات، وكذلك يجري الحديث عن واقع عمل مديريات الحراج وعناصرها ومشاكلها وصعوباتها بما يتعلق بهذا الجانب (مواجهة الحرائق)، بالإضافة إلى الأدوار المساعدة من قبل الجهات المؤازرة (الرسمية والأهلية)، ومع ذلك يعاد سرد جميع هذه الجوانب والصعوبات والمعيقات إثر كل حريق دون زيادة أو نقصان، لتظهر اللامبالاة تجاه إيجاد الحلول لهذه الصعوبات والمشاكل وكأنها شريكاً إضافياً في الجريمة، ومسهِّلاً لها، مع ما يترتب على ذلك من امكانية توجيه الاتّهام لكل من تقاعس أو عطّل أو منع الوصول إلى بعض الحلول، وما زال، كشريك في الجريمة، بغض النظر عن موقعه في سلّم اتخاذ القرار المناسب والضروري، أو منع تنفيذه بحال وجوده.
الجريمة كارثية وكبيرة ومستمرة، والمتهمين كثر، فأين الإدانات والمحاسبة؟.

معلومات إضافية

العدد رقم:
936
آخر تعديل على الإثنين, 21 تشرين1/أكتوير 2019 13:42