عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

مزيد من الإفقار والإعلام شماعة!

تجيير التخبط والارتجال، في القرارات والتوجهات الرسمية لبعض الجهات العامة أحياناً، على بعض وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية وصفحات التواصل، يكاد يصبح سمة عامة مؤخراً، وذلك للتهرب من استحقاقات النتائج السلبية لهذه التوجهات والقرارات الارتجالية على المواطنين، هذا إذا كانت فعلاً ارتجالية ومتخبطة، وليست مقصودة ومبيتة!.

المثال الفاقع على ذلك: هو ما جرى على مستوى مادة البنزين نهاية الأسبوع الماضي وبداية الأسبوع الحالي، حيث تزايدت أعداد السيارات المنتظرة في الطوابير أمام الكازيات، والتي كان بعضها مغلقاً، وبعضها الآخر تعذر بعدم توفر المادة، أو استنفاذها.
فقد صرح وزير النفط بأن: «الاختناق جاء بسبب التفاعل مع المنشور الذي نشرته إحدى المواقع الإخبارية أمس وذلك بسبب زيادة الطلب على المادة وبشكل مباشر».
فهل أزمة البنزين الحالية سببها فعلاً بعض الأخبار المتداولة عبر بعض المواقع الاخبارية؟.

النفط تصرح وتنفذ

نستعرض فيما يلي بعض الأخبار المتداولة حول المحروقات خلال الأسبوع الماضي:
الخبر الأول يقول: «أسفرت جلسة مناقشات موسعة برئاسة المهندس عماد خميس رئيس مجلس الوزراء عن توافق على حزمة من الضوابط الضامنة لمصلحة المواطن ومستحقي الدعم الحقيقيين في سياق تطبيقات البطاقة الذكية بما يؤدي الغرض النبيل منها.. كما تقرر الطلب من لجنتي الطاقة والخدمات البدء بإصلاح أي خلل في إدارة وتوزيع المشتقات النفطية للسيارات، لتكون وفق تقديرات استهلاك دقيقة تكفي احتياجات السيارات الخاصة والعامة مع إيجاد آلية مناسبة للاستهلاك الزائد عن الكميات المحددة، من خلال مجموعات عمل حيادية جوهر عملها الأساسي، العمل على حسن تطبيق البطاقة الذكية وحمايتها من التلاعب».
الخبر الثاني يقول: «أوضحت معلومات حصل عليها «الوطن أون لاين» أن وزارة النفط أنهت دراسة ‏ستمنح بموجبها كمية تتراوح ما بين ١٠٠ إلى ١٢٠ ليتر بنزين لكل مركبة بالسعر ‏المدعوم شهرياً من خلال البطاقة الذكية، وكل ما يفوق هذه الحاجة سيباع بسعر حر ‏لم يتم تحديده بعد».‏
الخبر الثالث يقول: «قالت مصادر خاصة أن الحكومة تتحضّر لإصدار قرار برفع الدعم عن البنزين ليصل إلى النصف عما هو عليه حالياً.. وفي أول مؤشر على قرب صدور القرار، أغلقت معظم كازيات دمشق أبوابها اليوم، فيما يبدو أنه تحضير واقعي للقرار الجديد، وانتظار لتعميمه، وعمليات الجرد التي تقوم بها دوريات التموين للكميات الموجودة في الكازيات».
الخبر الرابع يقول: «مصدر في وزارة النفط: سبب الازدحام على الكازيات هو خبر نشره موقع إلكتروني وأورد فيه أخباراً غير مستندة إلى أي شيء رسمي وتم نشره يوم الجمعة، وهي عطلة شركة محروقات، ونتيجة هذا الخبر بدأت تظهر طوابير على المحطات، علماً أن الوضع كان جيداً حتى مساء البارحة».
الخبر الخامس يقول: «وزارة النفط والثروة المعدنية: كإجراء احترازي بسبب الازدحام على محطات الوقود، ولزيادة انسياب الآليات على هذه المحطات.. تم التوجيه ولفترة محدودة بتعديل الكمية اليومية المسموح تعبئتها للسيارات الخاصة العاملة على مادة البنزين من 40 لتراً يومياً لتصبح 20 لتراً يومياً».

من يتحمل مسؤولية الأزمة

بعيداً عن التأويل والتفسير، وبعيداً عن المبالغة والتسطيح، فإن الخبرين الأول والثاني هما المقدمة الموضوعية للخبر الثالث، ليس على مستوى ما قيل بالنسبة لإغلاق الكازيات وعمليات الجرد التي تقوم بها دوريات التموين، حيث لم يتم التأكد من مضمون هذه المعلومة، بل على مستوى الازدحام عليها بالحد الأدنى، وهو أمر ملموس ومشاهد ومؤكد رسمياً.
وبالتالي، فإن تجيير ما يجري، على مستوى مادة البنزين حالياً، على بعض وسائل الإعلام كما ورد في الخبر الرابع، وتحميلها مسؤولية الازدحام على الكازيات فيه الكثير من التجني، فالخبران الأول والثاني كفيلان وحدهما بخلق أزمة على هذه المادة.
نأتي أخيراً للخبر الخامس المتضمن «الإجراء الاحترازي» بتخفيض كمية المخصصات اليومية للسيارات للنصف، ونتائج هذا الإجراء على مستوى زيادة الأزمة بدلاً من معالجتها.
ونعود للتذكير بالبطاقة الذكية التي وضعت بالاستخدام من أجل ضبط التوزيع ومنع الاختناقات والحد من الفساد، فإذا كانت الكميات المخصصة للسيارات يومياً متوفرة في الكازيات، لماذا زاد الازدحام؟.
لنصل للسؤال الأهم بهذا الصدد: ما المقصود بعبارة «زيادة الطلب» على لسان الوزير، طالما كل سيارة أصبحت مخصصة بكمية محددة يومياً لا يمكن تجاوزها؟!.
ولا ندري بعد كل ذلك هل يصح القول عن الأزمة هنا بأنها «مفتعلة» أم لا؟ فمصدر الخبرين أعلاه رسمي دون أدنى شك، والإجراء الاحترازي رسمي كذلك الأمر! ويبقى التساؤل مشروعاً عمن يجب أن يتحمل مسؤولية الأزمة الحالية؟.

تعدد سعري

المحروقات التي يقال بأنها «مدعومة»، كانت قد أصبحت قيد التوزيع عبر «البطاقة الذكية» التي فرضت على جميع المستهلكين، وذلك بغاية «إيصال الدعم لمستحقيه» بحسب ما تم التصريح به رسمياً، مع الكثير من التهليل والتمجيد بمحاسنها وجدواها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ذكاء البطاقة لم يمنع التحايل عليها، كما لم يمنع السوق السوداء وأسعارها الاحتكارية، بل ربما كانت سبباً في زيادة نشاط هذه السوق أكثر من ذي قبل.
وواقع الحال يقول أيضاً: إن مادة المازوت أصبحت موجودة في الأسواق بأسعار متباينة ومختلفة ومشرعنة عملياً، وذلك بعد أن تم فسح المجال لتوفير هذه المادة للصناعيين من مصادر متعددة، بعد تراجع الدولة عن دورها بهذا المجال بذرائع مختلفة، بالإضافة طبعاً إلى السعر «المدعوم» الخاص بالتدفئة، وسعر السوق السوداء.
ومع الحديث الرسمي أعلاه حول مادة البنزين، فإن هذا يعني أن هذه المادة ستدخل حيز تعدد الأسعار هي الأخرى، بين السعرين الرسميين «المدعوم» والحر، وسعر السوق السوداء طبعاً.
أما عن مادة الغاز فحالها ما زال على وضعه بالنسبة لتوفرها بين السوق النظامية والسوداء مع الاختلاف السعري بينهما.
وقد سبق هذه وتلك أسعار بعض المشتقات النفطية الأخرى، مثل: الفيول، الذي دخل حيز التباين السعري بين سعر الدولة وسعر الخاص، لكن هذه المادة محدودة بالمنشآت الصناعية لذلك لم يتم الحديث كثيراً عنها.

سياسات الإفقار

والنتيجة، أن المحروقات أصابها نوع من الفصام على مستوى التعدد السعري، المُشَرعَن وغير المُشَرعَن، المقترن بتوفرها، والترجمة العملية لتعدد الأسعار أعلاه تعني بكل وضوح وبساطة استكمال رفع ما يسمى «دعم» على المشتقات النفطية (مازوت- بنزين- غاز)، ولا أحد يدري إلى أين ستصل أو أين ستنتهي؟ لكن لعل الأهم أنها ستكون بداية لسلسلة غير منتهية من تتالي رفع الأسعار على البضائع والسلع والخدمات في السوق، مع استمرار تذبذبها المشروع، أي: مزيد من استنزاف الجيوب، ومزيد من الإفقار للمواطنين «المدعومين».
فأين ذكاء البطاقة، و«الغرض النبيل منها» بحسب ما نسب لرئيس الحكومة، التي تم فرضها بذريعة الحفاظ على استحقاقات الدعم ووصولها للمستحقين؟.
ومن أين سيتم التعويض على المفقرين لقاء الارتفاعات الجديدة المرتقبة على الأسعار في ظل تباين الأسعار أعلاه، وفي ظل الاستمرار بنفس السياسات المفقرة؟.
نختصر، ونقول: ربما لا غرابة، فالسياسات الليبرالية المعتمَدة حكومياً تقتضي الاستمرار بتخفيض الدعم والإنفاق الحكومي، وهو ما تثبته الوقائع اليومية منذ عقود، وصولاً لما آل إليه واقع حال أمسنا القريب والبعيد ويومنا الحالي، وكل ما يقال عن تحسين مستويات المعيشة وغيرها، لم ولن يكون إلا لذرِّ الرماد في العيون، ولتحويل الأنظار عمّا هو قائم من سياسات مع نتائجها السلبية والعميقة والمتسعة، التي تزيد بؤس الفقراء وتقشفهم كما تزيد ثروة الأغنياء والفاسدين وترفهم، ولا خلاص إلا بالقطع مع هذه السياسات الظالمة بحقنا وبحق البلد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
908
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2019 13:56