«إعادة إعمار أحلامنا»... تجارة رابحة

«إعادة إعمار أحلامنا»... تجارة رابحة

أنت تشاهد الآن واحدة من القنوات الفضائية الخاصة التي باشرت بثها من خارج البلاد في الموسم الرمضاني الماضي. ما إن ينتهي إعلانٌ دعائي عن مشروع «ماروتا سيتي»- نموذج الإعمار النيوليبرالي السوري- إعلانٌ «يتغنى» بدمشق بوصفها مساحة استثمارية رابحة، حتى تفتح القناة المذكورة ستار شاشتها على برنامجٍ يأخذ على عاتقه مهمة عريضة موازية: «إعادة إعمار أحلام السوريين».

«مو ضروري تمشي على مبدأ ألف باء... أنت كسور القاعدة وكون أنت الاستثناء»، هذه واحدة من الجمل الافتتاحية للبرنامج المذكور الذي يتخذ لنفسه النمط المعروف بـ «One Man Show». وفي البرومو الترويجي للبرنامج المذكور، يحدد المذيع سلفاً هدف البرنامج: «نحاول أن نثبت أن كل الناجحين في هذا العالم كانوا قد مروا بظروفٍ بشعة جداً، لكن ما ميزهم هو أنهم قد آمنوا بأنفسهم ولم يتركوا الظروف تتغلب عليهم... حان الوقت لنعيد إعمار أحلامنا...».
يحاول العنوان العريض للبرنامج اجتذاب شريحة محددة من الجمهور السوري، ولا سيما فئة الشباب الذي سُدّ في وجهه أفق بناء الحياة التي يطمح لها، أو على الأقل، أولئك الشباب الذين يرون في قوانين المنظومة الاقتصادية القائمة في البلاد عائقاً دون تحقيق أحلامهم، فيأتي البرنامج المذكور ليساند منظومة النهب ذاتها في الترويج لأفكار «الخلاص» الذاتي الفردي من ضوابط هذه المنظومة، وإمكانية البناء على القدرات الفردية وحدها بمعزل عن المجتمع. هذه العوامل هي، من وجهة نظر البرنامج، الأساس الذي تُبنى عليه عملية «إعادة إعمار الأحلام»، فماذا عن تفاصيل هذه العملية؟
بعد أن يوجّه تحية إلى «كل المُحبَطين» الذين يتابعون البرنامج، ينطلق المذيع في رحلةٍ يتعرِّف فيها هؤلاء المُحبَطون على مُحبَطين أمثالهم لكنهم «بالتصميم، والتميّز، والإصرار، والإيمان بالذات والقدرات الفردية...» استطاعوا أن «يكسروا القاعدة». وعلى هذا النحو، يطلب البرنامج من كل «سوري مُحبَط» أن يُؤمن بقدراته الفردية الكامنة ليتحوّل ربما إلى مارك زوكربيرغ أو ستيف جوبز أو بيليه أو روميلو لوكاكو أو بيير كوليفورد... إلخ. عارضاً المصاعب التي واجهتها هذه الشخصيات حتى تمكنت من العبور إلى الضفة الأخرى، من ضفة الفقر والتهميش والعذابات، إلى ضفة الشهرة والمال والنجاح.
«لا تشتكي... بل ثابر»
رغم الكلام العاطفي الممجوج عن السوريين وقدراتهم وأحقيتهم بالعيش، هذا الكلام الذي تعودنا سماعه على أكثر الشاشات مساهمة في تأليب السوريين ضد بعضهم البعض... تكمن الرسالة الواضحة للبرنامج في تحميل السوريين المسؤولية عن تردي أوضاعهم المعيشية، حيث إن إرجاع سبب التردي في وضع المواطن السوري إلى نقصٍ محتمل في مثابرته وإرادته يأتي في سياق تصوير معاناة الفقر الناجم عن منظومة النهب الاقتصادي الاجتماعي بوصفها معاناة فردية تحتاج حلاًّ فردياً استثنائياً ينفد فيه الفرد «بجلده»- وحيداً منفرداً- من وطأة الظروف الظالمة.
هل نحاول فيما نقوله إقحام السياسة في موضوع البرنامج المذكور؟ في واقع الحال، إن المسألة أكبر من البرنامج بحد ذاته وحتى أكبر ممن يقفون خلفه، حيث إن الطروحات التي ترفع من الحلول الفردية شعاراً لها هي طروحات ملازمة دوماً لمنظومات النهب الرأسمالي، فإذا ما أخذنا التداعيات المدمِّرة الناتجة عن هذا النهب على المجتمع وعلى الفرد نفسه، نجد أن استمرار هذا النهب – كمنظومة- يشترط وجود بنية وعي جمعي قابلة للتساوق مع المحتوى اللاإنساني لهذا النهب. وأي وعيٍ يلبي رغبة الناهب أكثر من ذلك الذي يلقي بمسؤولية الفاقة والعوز على كاهل الفرد ذاته؟ وأية سلعة صالحة لعرضها في سوق النهب أمام الأفراد المسحوقين أكثر من أولئك «الأبطال الخارقين» الذي «تجاوزوا» ظلم وجور المنظومة القائمة وتمكنوا من العبور؟ هؤلاء الرموز الذين صنّعت المنظومة عدداً كبيراً منهم تصنيعاً، لتقول لكل رافض: هاك انظر، هنالك من «شغّل عقله» ونجا بنفسه... كن أنت التالي!
الأحلام والأوهام
لا يمثل ما سبق أنَّ ما ذكرناه سابقاً دعوة عامة للتشاؤم إطلاقاً، على العكس من ذلك، التفاؤل اليوم موضوعي وممكن ومطلوب جداً، ولا سيما في ظل الأزمة الخانقة التي تعيشها منظومة النهب في العالم كله، وانفتاح أفق الانعتاق والتحرر الناجز للشعوب من قيود هذه المنظومة التي سادت العالم وقتاً طويلاً. بل إن ما نقوله: إن هذا الانعتاق لا يكون إلّا جماعياً، بالقضاء جذرياً على أسباب التهميش التي تقيّد الفرد والمجتمع وتكبح تطورهما معاً، أي أنه غير ممكن إلا بالتضافر الاجتماعي لإيجاد نموذج اقتصادي اجتماعي لا «يحرِّر» الفرد من المجتمع ويقيده بأوهام الخلاص الفردي، بل يحررهما معاً من براثن الفقر وتبعاته الأخرى، ويطلق العنان لتطورهما الإنساني المنشود الذي بات ممكناً والتفاؤل في سياقه مشروعاً. وما مشاريع تسويق الوهم تحت شعارات الدفاع عن الأحلام إلّا هجومٌ على هذه الأحلام ذاتها وعلى الإمكانية المعززة لتحقيقها في المستقبل المنظور.
تكمن المسألة بالنسبة لعرّابي «ماروتا سيتي» وأشباهه (راجع مقالة: أحلام «ماروتا» المدمِّرة- عشتار محمود– جريدة قاسيون– العدد 845)، في أن هنالك من يتبنى نموذجاً محدداً لسورية المستقبل، يُشرَّعُ فيه باب النهب في البلاد على مصراعيه، ولإنجاز ذلك لا بدَّ من «عِدّة الشغل» النيوليبرالي كاملة، بما في ذلك خطاب إعلامي يتاجر بأحلام الناس المشروعة ويوجهها نحو طرقٍ عقيمة لا تُثمر، متوهمة إمكان الإبقاء على المجتمع مكبلاً، وعلى الفرد متسائلاً في كل يوم: «لماذا لا أكون ستيف جوبز الجديد؟