النقل «الداخلي».. بساط ريح السوريين! العام ينحسر.. ولم، ولن تنقذه استثمارات الخاص!

دون استحياء طلب سائق السرفيس مزيداً من الأجرة على التعرفة المعتادة، وبدأ يثرثر عن أزمة المازوت محاولاً أن يسمع جميع الركاب معاناته،  وأن المهنة الحقيرة التي ابتلي بها لا تأتي بهمها، وأن السائق مهضوم حقه فلا المحافظة تنصفه ولا المواطن.

ومع صعود عدد من الركاب الجدد اضطر لتقديم مبررات جديدة، وهو يسأل ويجيب فيما لف صمت وريبة أحد عشر راكباً بدوا كتلاميذ في الصف، ويتابع السائق روايته: هل يعقل يا جماعة أن أقف أمام الكازية ست ساعات من أجل عشرين ليتراً من المازوت؟، وليست جريمة أن أشتري كالون المازوت بـ700 ليرة حتى لا ينقطع الخط؟، والمحافظة أليست تضحك علينا جميعاً عندما يرتفع سعر المازوت وتبقى التعرفة خمس ليرات؟.
يلتفت السائق إلى الركاب ويسأل أحدهم:  بالله عليك يا باشا هل يرضى ابنك بخمس ليرات إذا أرسلته إلى الدكان ليجلب حاجة للبيت؟.. يسقط في يد الراكب ويجيب بلا، وأما السائق فيتابع جمع العشرات بنشوة المنتصر.

إضراب الأمر الواقع
تسبب عدم توفر المازوت بانقطاع وسائل النقل العام عن تخديم المواطنين على بعض الخطوط العاملة في العاصمة، جزئياً أو كلياُ، وأثر النقص الحاد للمادة على حركة انتقال المواطنين من وإلى وظائفهم، ومصالحهم الخاصة والعامة، ويروي بعض السائقين عن إضراب نفذته بعض الخطوط لإجبار المحافظة على الاستجابة لطلبهم في تأمين خزانات وقود لكل خط على حدة، وهذا ما يؤدي استمرار الحركة بشكل جيد دون انقطاع.. خصوصاً في وجود خطوط «مدللة» أو «ابنة البطة البيضاء» وخطوط مغضوب عليها وعلى سائقيها، بل وعلى راكبيها أيضاً!!
سائق على خط (جادات- سلمية) يرى أن الأمر بسيط وغير معقد، وهو فقط يكلف محافظة دمشق بتأمين خزان لكل خط، ومراقب يقوم فقط بملء خزان السرفيس بعشرين ليتراً فقط في اليوم، وتسجيل رقم السيارة والسائق وساعة الملء، وهذا ما يحافظ على تأمين الخط بشكل جيد، ولكن هناك من يريد تعقيد أشغال المواطن والسائق وإبقاء مصالحه المرهونة بشكل ما باستمرار وتفاقم الأزمة..
سائق آخر يقول: يا رجل كدنا أن (نروح) فيها، طلبوا لنا الشرطة، واعتبروا أننا نفتعل المشكلة من أجل زيادة التعرفة.
سائق على خط ركن الدين- الشيخ خالد: لا يمكن أن تعود لأولادك بالطعام من عمل يوم كامل، ونحن نعمل من أجل المازوت بسعره الغالي، وتصليح السيارة، وحصة صاحبها.

المازوت.. لجان ومناقشات
كشف عضو المكتب التنفيذي لقطاع النقل في محافظة دمشق لصحيفة محلية أن لجنة النقل ستجتمع مع لجنة المحروقات خلال أيام لمعالجة مشكلة تعطل وسائط النقل، وأنه لا يمكن تحديد كمية المازوت اللازمة قبل مناقشة الأمر مع لجنة محروقات.
على الأرض المشكلة قائمة وتحتاج إلى قرارات حاسمة وسريعة، ومهما كانت الصعوبات فالكل يعتقد كمواطنين أن الدولة قادرة على حل هذه المشاكل التي تؤثر على مصالح المواطنين مهما كانت حاجاتهم، وأعمالهم، وأن الموظف لن يصل إلى وظيفته ليتابع معاملاتهم ومشاكلهم إذا توقفت السيارات العامة عن نقله، وبالتالي يتعدى الأثر السلبي الجميع.
ولكن بعض المواطنين وعند سؤالهم عن ثقتهم بالمحافظة أجمعوا على أن أية قضية تدخل إلى لجان المحافظة ربما تخرج إلى الحل بعد أن يتولد عنها مشكلة جديدة فما هو لزوم انعقاد اللجان وتشكيلها دون أزمات؟
ماهر (ر) سائق: كان يجب على المحافظة أن تحتاط لأزمات كهذه ، ولا يمكن أن تنتظر وقوعها، ومهمة هذه اللجان والمكاتب أن تضع في حسابها الأخطار والمفاجآت.
 

تعرفة ظالمة
لا يمكن أن يرضى السائق عن تعرفة خدمته لنقل المواطن، وينتاب الجميع حالة من الإحساس بالظلم الدائم، والشكوى والتأفف هما قاسمان أبديان لأحاديث السائقين مع ركابهم.. وحديث الركاب فيما بينهم..
ومع ذلك فهؤلاء يمتلكون الحق عندما تتقاعس اللجان المخولة بزيادة تعرفة النقل عندما ترتفع أسعار المحروقات، وهم تركوا منذ أشهر على تعرفة قديمة رغم ارتفاع أسعار المازوت في السوق بشكل مطرد، والنقص الحاد، والساعات الطويلة التي يقضيها السائق في انتظار الحصول على كمية لا تكفي غالباً لنهار عمل.
حجة المحافظة في عدم تعديل التعرفة يبينها عضو المكتب التنفيذي في محافظة دمشق في حديثه: إن محافظة دمشق كانت قد أصدرت تعرفة جديدة للسرافيس العاملة على المازوت بعد تخفيض سعر هذه المادة، إلا أنها لم تستطع تطبيقها بسبب أزمة المازوت التي لم تنته بعد.
ولكن السائقين يطالبون الآن بتعرفة جديدة نتيجة لظروف طارئة، وهذا ما يجب على المحافظة أن تجد له حلاً، إما بتأمين المادة، أو وضع تعرفة طارئة لظرف طارئ.
 

المواطن.. مظلوم مرتين
الشوارع في الصباح تزدحم بالمواطنين، وتجمعات بالعشرات في مفارق بلدات الريف تسد الطريق، ومن يفلح في الركوب يبسمل في سره سعادة، وأما الكثيرون فيعودون إلى أمكنتهم بعد أن ينزل في الموقف راكب واحد.
في قطنا بريف دمشق يمشي المواطن على طول طريق السرفيس من أوله إلى آخره، وفي الطريق نفسه يحاول أن يسبق مواطناً يتقدم عليه بأمتار فربما يكون من حظه محل شاغر.
المشكلة تتجاوز أزمة المازوت، وهنا يقول مواطن: أغلب السرافيس متعاقدون مع مدارس ومعامل، وطلاب، وهذا أكثر فائدة لهم من العمل على خطوط السير، وبعضهم لا يأبه للمواطن ولا تعنيه مسؤولية عدم تأمينه، ويعود للعمل بعد انقضاء فترة الزحام.
مواطن آخر: المشكلة قديمة وأسبابها أن لجنة السير والبلدية متآمرون مع أصحاب السرافيس، وكذلك شرطة المرور لا تعير اهتماماً لهذه الاختناقات، والمسؤولية تقع على كل هؤلاء.
سائق متعاطف: المشكلة في مدير الخط، وموظفيه الذين فقط يقبضون من السائق أتاوة شهرية حوالي 250 ليرة سورية، وخط قطنا يضم 400 سيارة، وهذا ما يجعل أغلب السائقين يعملون على هواهم فلا أحد يحاسب أحداً.
موظف منتظر: منذ أكثر من ساعة وأنا أنتظر سيارة تقلني إلى عملي، ولا أحد يهتم فالمدير في العمل يخصم من راتبي، والبرد والانتظار اليومي لا يمكن العيش معهما كإنسان في القرن 21، ولا يمكن لموظف بالكاد يأكل ويشرب أن يشتري سيارة ولا حتى (طرطيرة).
 
خطوط لا تصل
بعض السيارات العامة العاملة لا تصل إلى نهاية خطها المقرر وخصوصاً في دمشق، ويشكو على سبيل المثال المواطنون القاطنون في مخيم اليرموك، والتقدم، والحجر الأسود، وسبينة، والكسوة في ريف دمشق من تمنع السائقين عن الوصول إلى نهاية الخط، ويكتفي السائق بالإشارة إلى الراكب على أنه سيعود من (البوابة) في منطقة الميدان، والأدهى كما يقول أحد المواطنين يطلب كامل الأجرة، وهو بذلك يضرب عصفورين بحجر واحد العمل بشكل مضاعف، وكذلك الغلة الوفيرة.

 
مركب الحلوين
مشكلة النقل في سورية تذهب إلى أبعد من كونها مشكلة مادية للأسباب التي أوردناها بل تتعدى إلى كونها مشكلة أخلاقية بامتياز.
بعض السائقين ينتقون ركاباً حسب شهواتهم وأذواقهم، والبعض يبدو عنصرياً في انتقاء الركاب بالألوان واللباس، وبعض منهم خال من الأخلاق عندما ينتقي فقط النساء وخصوصاً الجامعيات اللواتي ربما يبتسمن في وجهه، ويترك في المقابل مسناً أو امرأة عجوزاً على قارعة الطريق.
عدم الأخلاق يأتي أيضاً من تجاوزات التعرفة، وما يعكر صفو خلدون الموظف في (سيريتل) والأنيق الدائم الكراسي المقلوبة، والمكسورة، والضيقة المصنوعة على حجم صيني قزم.

النقل الخاص.. ليس خاصاً
الشركات الخاصة التي أنشأت لتنقذ الواقع السيئ للنقل زادت الطين بلة، وعندما شاهد أبو أحمد وعلى ذمته أول قوافل الياسمينة الدمشقية قال في سره الآن سأموت وأنا أحقق حلمي في أن أجلس في كرسي مريح، وليس على الواقف.
  أمنية أبي أحمد لم تتحقق، فأساطيل القطاع الخاص عملت بالعقلية نفسها التي أدارت شركة النقل العام في الثمانينيات، وطلبت من سائقيها جمع أكبر عدد من الركاب معلقين في الباص بالإضافة إلى حوافز من نمط سعر البطاقة بثماني ليرات للسائق وللراكب بعشر والفارق هو ما يذهب إلى جيب السائق الشاطر.
ويستغل سائقو شركات النقل الخاص أزمة الوقود حالياً ويمارسون هواية حشو الركاب بقدر المستطاع، والانتظار على المواقف بحثاً عمن يمسك بالباب كآخر الصاعدين.

تاكسي.. لعبة العدادات
بين عداد معطل وغير معدل المواطن فريسة سهلة، ولقمة سائغة، وبعض الخبراء من السائقين يمكنه اصطياد الزبون الشارد بكبسة سحرية على العداد الذي يعمل منذ مسافة بعيدة، وبالتالي لا يكاد الزبون يربط حزامه حتى تدور الأرقام ويسقط من حساب الراكب 700 متر.
السائق يرى أنه مظلوم بارتفاع أسعار البنزين مقابل تعديل بالليرات على تعرفة الركوب، فالتعديل على العشر ليرات الأولى هو ليرة واحدة، وهكذا على كل عشر ليرات ليرة واحدة فقط، وقد سقطت من حسابات السوريين كما يقول أحدهم.
أبو محمد سائق تكسي قديم يقول: الذين يضعون التعرفة أناس لا يعيشون في البلد، أنا أعمل مقابل نسبة 25% مما تنتجه السيارة، وعند المساء أعود إلى بيتي فقط بـ 300 ليرة، فهل يستطيع واضعو التعرفة أن يقولوا لي ما الذي تقدمه  هذه الليرات  لأسرة مؤلفة من سبعة أشخاص بينهم ثلاثة جامعيين؟.


حلول تنتظر
منذ أعوام ليست بعيدة كان ملف النقل شاغل الحكومة، ومحور تصريحات وزرائها ومحافظيها ومدرائها، وكان(المترو) هو الحل الذي سينقذ دمشق من اختناقها، ويجعل هواءنا نظيفاً وركوبنا سهلاً، وكذلك حظيت الطرق العريضة والواسعة والدائرية المتحلقة حول العاصمة بذروة اهتمام الحكومة، وقيل إن التأخير في إنجازها نتيجة لتشابك بعض الصلاحيات، وأخذت في طريقها إلى التنفيذ آلاف البيوت التي تحوي عائلات من الصنف الشعبي.
ولكن النتائج كانت وضع بعض المسؤولين في السجن، وأقصي البعض، وصار المترو حلماً فضفاضاً على السوريين فحسب رئيس الحكومة السابقة إن المواطن السوري غير قادر على دفع ما يقارب 70 ليرة أجرة ركوبه الميمون في المترو الحلم.
الحلول الآن استعصت أكثر وخصوصاً في هذه الأزمة الوطنية والتي تعصف بالاقتصاد السوري، ويجب أن تنتظر حتى تخرج البلاد من محنتها، ومعها سيطول انتظار المواطن لحافلة تقله باحترام.                     

معلومات إضافية

العدد رقم:
542