الفساد.. جريمة ضد الإنسانية..
يعتبر الفساد من أكثر الأوبئة انتشاراً وخطورة في العالم، وبات ينتشر في المجتمعات طولاً وعرضاً مخترقاً كل الحواجز والقوانين والقيم، وبعد أن عاث المفسدون فتكاً وهتكاً بالمجتمع والبشر، صاروا يفسدون في الأرض والسماء فلا ينجو من وحشيتهم البر والبحر والهواء والتراب، حتى كاد ينطبق على واقعنا حكم الآية القرآنية التالية:
من المؤكد أن الفساد ظاهرة عالمية، ومرض يصيب كل المجتمعات، ولكنه مختلف من مجتمع لآخر من حيث درجة شره وهمجيته وخطورته، ففي المجتمعات المتطورة والتي تتميز بقدر كبير من الحرية والشفافية والإعلام الديمقراطي تستطيع شعوب هذه المجتمعات من أن تحد وتخفف من انتشار هذه الظاهرة من خلال هيئاتها المدنية وتنظيماتها الديمقراطية ومؤسساتها القانونية ومن أن تكشف عن مواقع وبؤر الفساد وتحاسب الفاسدين والأشخاص الذين يتلاعبون باموال الشعب وفي أعلى مستويات القيادة والمسؤولية ومحاكمتهم وإحالتهم للقضاء، بخلاف ما يحدث في مجتمعنا حيث يحمي تفسخ القضاء ومنع الحريات العامة وتحجيمها والتقييم الإعلامي المفسدين والمجرمين من المحاسبة والمساءلة، فينهبون في الظلام الديمقراطي ويسرحون ويمرحون في الضوء وسط لا مبالاة الدولة والسلطات. والأنكى من ذلك يتم كم الأفواه ومحاسبة كل من يحاول الكشف عن هؤلاء الفاسدين وفضح أعمالهم القذرة.
ينمو ويظهر الفساد من خلال استخدام السلطة لحساب المصالح الشخصية وإفقار الشعب عن طريق نهب خيراته وثرواته والتعامل مع الشركات الأجنبية في استغلال هذه الثروات بحجة الاستثمار، والتلاعب والتحايل على القانون لتنفيذ وتمرير الصفقات التجارية لصالح بعض الطغم المالية، والتلاعب بلقمة الشعب عن طريق الغش والاحتكار والتهريب ورفع الأسعار وتجميد الأجور وفرض الضرائب والرسوم والأتاوات على المواطنين وتغلغل المافيا والسماسرة في الدوائر الحكومية... إلخ.
لقد ترك الفساد في بلادنا من أثار ونتائج وشروخ في المجتمع أكثر إيلاماً وقسوة وتأثيرا ًمما تتركه ويلات الحروب ومآسيها مثل:
1. البطالة: وهذه تعني انهيار قيمة الإنسان وفقدان كرامته تحت ضغط الحاجة والفقر.
2. الدعارة: حيث يتحول جسد الإنسان إلى سلعة تباع وتشترى بأبخس الأثمان.
3. تجارة وتعاطي المخدرات وتفشي السرقة والجريمة والتسول وانحراف الشباب عن الطريق الصحيح.
4. انتشار ثقافات المجتمع المخملي. ثقافة الكباريه والكازينو وثقافة الاستهلاك ـ وهذه الثقافات تولد اتجاهات مضادة متطرفة مثل الحركات الأصولية والسلفية وبين هذه التفاهات تفقد الثقافات الوطنية التنويرية قيمتها وهيبتها.
5. الهجرة والغربة عن الوطن والبحث عن السعادة المفقودة في بلدان الآخرين.
6. إنها تعيد عبادة الأوثان ثانية إلى المجتمع، عبادة الكرسي ـ السلطة ـ وعبادة السلعة، وعبادة النص (سطوة العقيدة) وعبادة الفرد حيث يحل الإله البشري محل الإله السماوي.
7. زعزعة القيم الوطنية والمسؤولية وسيادة العلاقات الربوية بين المواطنين، انهيار كل أشكال التواد والتراحم التقليدية بين الناس، فبالإضافة إلى التكاليف والخسائر المادية الناتجة عن الفساد وتعطيل فرص التنمية فالفساد يقتل روح المبادرة والتنافس العلمي الشريف ويحبط رغبة الأفراد في الترقي وفي تحصيل العلم والمعرفة وهو في نفس الوقت يشوه قيم الثقافة الوطنية، وتصبح المواطنة معياراً شكلياً تستثمر في إطار مادي خالص والشأن الفردي يعلو على التقدير الوطني.
8. تلوث البيئة وانتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة.
في اعتقادي أن الجرائم والفظائع التي يقوم بها الفاسدون لا تقل فظاعة وبشاعة عما يمارسه مجرمو الحروب من عمليات القتل والإبادة الجماعية والتطهير العرقي، إن كليهما يمارس أبشع الجرائم بحق الإنسانية مع الاختلاف في الوسائل المستخدمة، فلا فرق بين من يمارس القتل والتدمير ضد مجتمعاتهم وبين من يحرمهم من مقومات الحياة الكريمة، مع أن من يمارس القتل والتطهير العرقي يقتل ضحيته مرة واحدة، بينما مجرمو الفساد يقتلون الناس يومياً عشرات المرات من خلال نهب خيراتهم وحرمانهم من حقهم في حياة كريمة لائقة كما أنه لا فرق بين مستعمر يخرب الاقتصاد وينهب خيرات البلاد وبين تلك البرجوازيات التي تدعي أنها وطنية وتتلاعب وتسرق أموال الشعب.
إن اتجاه الفساد وصل إلى نقطة حرجة في مسيرته من الأعلى إلى الأسفل، ووصل إلى حالة من الهستريا والفوضى. وذلك لا يحدث إلا عقب أحداث كبيرة مثل الحروب والزلازل وتبدو هذه الهستيريا في استعداد البعض للنهب والسرقة ـ إلا أن الغالبية من المواطنين مازالت ضمائرهم نابضة بالشرف والكرامة ـ فلم يعد هناك رادع أخلاقي وقانوني يكبح جماح البعض نتيجة تفسخ السلطة القضائية وتدني هيبة الدولة وانعدام المثل العليا والقدوة الحسنة، فبعض من تقع في يده أموال الدولة أو يتحكم بها من خلال مركزه لا يترك فرصة مناسبة ليسرق ويختلس بدءاً من موظف صغير (جابي) في إحدى المؤسسات إلى أعلى شخص فيها، وهكذا أصبح حال المال العام مثل قطيع غنم تائه وسائب بين قطعان من الذئاب الشرسة والشرهة.
ليس من الممكن أن يظل الاستقرار الاجتماعي قائماً مع هذا الإيقاع الجنوني للفساد دون التفكير جدياً في وسائل مكافحته والتي تتمثل ببداهة:
في إنشاء محاكم نزيهة لمحاكمة الفاسدين من القمة إلى القاعدة «خضوع الجميع للمحاسبة كخطوة أولية».
تعزيز الديمقراطية وإجراءات كفيلة للكشف عن رموز ومواقع الفساد.
إصدار قوانين صارمة وعادلة والتجديد المستمر في القوانين لمواكبة التطور.
الاستيلاء على الأموال المنهوبة.
إقامة جهاز قضائي نزيه ونظيف.
ولكن الحلقة الأساسية والأكثر أهمية وخطورة في سلسلة طرق معالجة الفساد ومحاربته يظهر في إشكالية «من يحاسب من» ومن يسمع الكلام وخاصة أن شبكة الفاسدين مترابطة ومتراصة في دوائر حلقية قوية وتشبه هذه المقطوعة النثرية: حول البابا يدور الكرادلة ، وحول الكرادلة يدور الأساقفة، وحول الاساقفة يدور الأمناء وحول الأمناء يدور الآباء، وحول الآباء يدور الصناع، وحول الصناع يدور الخدم، وحول الخدم تدور الكلاب والدواجن، فمن يحاسب من، ويضع الجرس في عنق القط؟!
إن معظم الناس وصلوا إلى قناعة أنه لافائدة من الكلام والنقد والكشف عن المستور ويستفسرون عن جدوى الكتابات والشكاوى التي تكشف وتعري بعض الفاسدين واللصوص الذين يتلاعبون بمصير الشعب ومصالحه وبالأدلة والشواهد الحية، ورغم ذلك فإن القانون لا يأخذ دوره ومجراه الحقيقي، بل إن بعض الفاسدين يتبوءون مناصب عالية بعد إدانتهم كتصرف استفزازي للمواطن وفي أسوأ الأحوال ينقلون إلى مواقع اخرى فيها مجال النهب والسرقة أفضل وأيسر وإن طبق القانون في بعض الأحيان يكون ضد من لا حول ولا قوة له، أو إنه لجأ إلى السرقة تحت ضغط الحاجة والجوع، أي ينطبق عليه المثل الأمريكي القائل: «من يسرق رغيف الخبز يعاقب ويسجن ومن يسرق قطاراً يصبح عضواً في البرلمان»..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 180