التلوث البيئي والاقتصادي في سورية.. جهل في التشخيص.. وأوهام في المعالجة!
إن حماية البيئة أصبحت ضرورة ملحة في هذا العصر نظراً لكثرة مصادر التلوث الناتجة عن الكثير من الصناعات التي لابد منها لمواجهة متطلبات التزايد السكاني الكبير، ولتحقيق التكامل بين مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني للوصول إلى تنمية حقيقية مستمرة ومتوازنة . لذلك فإن تحقيق التوازن بين حاجات الإنسان وحماية البيئة المحيطة به هو الهدف الذي تسعى الحكومات لتحقيقه من خلال وضع المعايير والقواعد التي تحدد نسبة الملوثات المسموح بها للمنصرفات الصلّبة والسائلة والغازية الناتجة عن الصناعات المختلفة علماً أن هذه المعايير تختلف باختلاف الزمان والمكان . .
وقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول التلوث الناتج عن المنشآت الصناعية العامة في هذا القطر، وما سببته وتسببه من أضرار للاقتصاد وللمحيط المجاور لها والعاملين فيها والقاطنين حولها، وهذا حقيقة واضحة لا يستطيع أحد إنكارها أو التستر عليها، غير أن ما يثير الدهشة والاستغراب أن الحديث عن الحلول لهذه المشاكل والدراسات المتعلقة بها – إن وجدت - نجد أنها تتناول النتائج التي يسببها التلوث وتدعو إلى معالجتها وتتجاهل الأسباب التي أدت إلى حدوث التلوث!
ونتيجة لهذا الجهل أو التجاهل للأسباب الحقيقية للتلوث، فإننا نجد أن ما يطرح من حلول للمعالجة هو مقترحات تدور حول ثلاثة مواضيع خاطئة بمجملها بغض النظر عن الجهات التي تقترح هذه الحلول أو تتبناها، ومضمون هذه الحلول ينحصر في ثلاث نقاط هي:
1 - نقل التلوث من مكان إلى آخر!
2 - صرف الأموال الطائلة على مشاريع لمعالجة نتائج التلوث البيئي مع المحافظة على أسبابه مما يؤدي إلى المزيد من هدر المال العام..
3 - إلغاء مصانع موجودة واستيراد ما تنتجه بالعملة الصعبة وتحميل الاقتصاد الوطني أعباء جديدة وزيادة الفقر والبطالة تحت شعار (محاربة التلوث) و (عدم الجدوى الاقتصادية)..
فإذا كان ما يطرح من حلول ناتجاً عن عدم القدرة على معرفة الأسباب الحقيقية للتلوث من قبل المسئولين عن هذه المنشآت فتلك مصيبة، أما إذا كانوا يعرفون الأسباب ولا يتطرقون إليها فالمصيبة أعظم، لأن ذلك سيؤدي إلى تضليل الجهات الوصائية، بحيث تتخذ قرارات تؤدي إلى كوارث على صعيد الاقتصاد الوطني في المدى القريب والبعيد. وهنا يبرز السؤال المهم:
هل منشأتنا الصناعية العامة هي بحد ذاتها ملوثة للبيئة، أم القائمون على إدارة واستثمار ومراقبة هذه المنشآت هم السبب الأساسي لما تشكله من متاعب للاقتصاد الوطني والبيئة المحيطة بسبب ما يهدر من مواد وموارد؟؟؟
وحتى تكون الإجابة على هذا السؤال خارج إطار التنظير والفرضيات وضمن إطار الواقع والأدلة العلمية والعملية الموثقة، سوف نبين بالأرقام حقيقة دور الإدارات في تحويل هذه المنشآت لدعم الاقتصاد الوطني وصديقة للبيئة، وذلك بالعمل على الحد من الهدر عن طريق معالجة الأسباب التي أدت إلى وجوده بدل من خلق هذا الهدر ومعالجة نتائجه. وهذا يحتاج إلى إدارات تتمتع بالقدرات العلمية والإدارية والنزاهة..
وتجربتنا العملية في أكبر شركة من شركات القطاع العام وأكثرها جدلاً حول ما تحدثه من تلوث للبيئة، وهي الشركة العامة للأسمدة بحمص تؤكد هذه الحقيقة بالوثائق والأرقام.
في 9/4/2000 قام السيد وزير ألصناعه في حينها الأستاذ أحمد حمو بتكليف إدارة تم اختيارها بطريقه علمية بعيدة عن الطرق التقليدية المتبعة عادة، ومنذ تاريخ تكليف هذه الإدارة وحتى نهاية الشهر السابع من عام / 2002/ تم وبمتابعة متواصلة من السيد الوزير أحمد حمو وبجهود جميع العاملين في الشركة بنقل الشركة نقلة نوعية من حيث كمية الإنتاج وتخفيض كلفة واحدة المنتج وتخفيض استهلاك قطع الغيار بحيث أصبحت الشركة من الشركات الرائدة في وزارة الصناعة قياساً بماضيها الذي كانت عليه، حيث انخفضت كلفة واحدة المنتج أكثر من 18% مقارنة مع سنوات سابقة، كما انخفض معدل استهلاك المواد الأولية والمساعدة إلى أكثر من 18 %، وزادت حوافز العاملين حتى وصلت إلى قيمة تعادل الراتب الأساسي، وتم حل معظم المشاكل الفنية المتراكمة، وهذا ما أكدته جميع الفعاليات في الشركة بتقاريرها الموقعة أصولا لتقييم مرحلة عام /2000/ و/2001/ (جميع الوثائق تحت الطلب). وتم خلال عامين ونيف تحقيق ربح تجاري يزيد عن ملياري ليرة سورية و تحقيق ربح اقتصادي أضعاف ذلك ووصل المصرف الزراعي إلى مرحلة توقف بها عن استجرار الأسمدة لامتلاء مستودعاته، مما دفع السيد وزير الصناعة الأستاذ أحمد حمو للطلب من رئاسة مجلس الوزراء السماح بتصدير الأسمدة نظراً لامتلاء مستودعات الشركة وتوقف المصرف الزراعي عن الاستجرار. كل هذه النتائج تحققت عن طريق رفع مردود المعدات والاستثمار الجيد لها ودراسة أسباب التلوث ووضع الحلول المناسبة وتنفيذها على أرض الواقع، مما وفر ملايين الدولارات التي كانت مطلوبة لمعالجة نتائج هذا التلوث، ووفر عشرات الأطنان من المواد الأولية التي كانت تهدر للمحيط المجاور.
وتبين التقارير الموقعة من قبل ما يزيد عن مائة عنصر من فعاليات الشركة حجم التلوث الذي تمت معالجته ووقفه، وذلك عن طريق معالجة الأسباب التي أدت إلى ظهوره، وسوف نورد بعض مما ذكر حرفيا في هذه التقارير:
1 - تخفيض استهلاك الغاز الطبيعي بحدود 2000 متر مكعب /سا نتيجة لوضع غاز الكسح بالخدمة.
2 - توفير كمية كافية من co2 نتيجة إصلاح الصمام الخاص في قسم الأمونيا
3 - تخفيض استهلاك الغاز الطبيعي في المراجل بحدود 1500 متر مكعب /سا نتيجة لضبط تهريب البخار وتخفيض الاستهلاك.
4 - منع تهريب الأمونيا إلى الجو من صمام أمان خزان الأمونيا نتيجة لاستمرارية عمل ضواغط دارة يورك مما وفر عشرات الأطنان سنويا كانت تهدر إلى الجو المحيط.
5 - تخفيض الهدر من مادة الأمونيا في قسم اليوريا نتيجة لوضع المكثف المنعكس بالخدمة.
6 - تخفيض استهلاك المواد ألكيميائيه في دارة كارسول نتيجة ضبط شروط التشغيل.
7 - ألإقلال والحد من التلوث المائي حيث يصبح شبه معدوم إن لم يكن معدوما وذلك بإعادة اٍستخدام المياه المطروحة من باقي معامل الشركة في معمل (ت. س. ب).
8 - وفر كبير في استهلاك المواد الأولية المعالجة حيث يتم استرجاع كمية /200-300م3/سا مياه نظيفة إلى المرسبات مواصفاتها قريبة جدا من مواصفات المياه المفلترة كانت تذهب إلى البحيرة الأمر الذي يوفر مواد أولية لمعالجة هذه الكمية (سلفات الألمنيوم + مساعد تخثر).
9 - إجراء صيانة لأبراج التبريد في قسم حمض الكبريت ووفر بالمياه الصناعية التي كان يتم التعويض بها لتخفيض درجة الحرارة وتقدر الكمية التي تم توفيرها بحدود 200م3/سا، وقلل من تآكل المعدات.
10 - تجميع المياه النظيفة المنصرفة من الأقسام وإعادتها إلى المرسبات للاستفادة منها في العملية الإنتاجية.
11 - تحويل جزء من مياه المرمى الغنية p2o5) ) إلى المفاعل لتحسين مواصفات المعلق وتوفير 80 م3/سا مياه صناعية.
هذا بعض مما تم إنجازه لمكافحة أسباب التلوث قد أوردناه على سبيل المثال لا الحصر. علما آن قيمة هذه ألملوثه التي تم حجب تأثيرها على البيئة يقدر بمئات الملاين مما انعكس على كلفة المنتج حيث وصلت إلى 47% في منتصف عام 2002 بينما كانت تزيد عن 70% في عام 1997 ووصلت إلى 72% في عام 2005 رغم كل التزوير الذي تقوم به الإدارة لإخفاء هذه الحقيقة (جميع الوثائق تحت الطلب)
وبعد كل هذه الحقائق التي يدعمها 50 كيلو غرام من الوثائق الموجودة لدينا من شركة واحدة من شركات القطاع العام، هل هناك من شك بأن أسباب التلوث الحقيقية هي في القائمين على إدارة المنشات الصناعية والجهات الوصائية التابعة لها؟ هذه الإدارات التي لا تتمتع بالخبرات العلمية والإدارية المناسبة، وإن الخاسر الوحيد هو الاقتصاد الوطني، والمستفيد الأكبر هي الشركات الأجنبية التي ترى الأبواب مفتوحة أمامها لتنفيذ مشاريع لا حاجة لها لو كنا ندرك (أو نرغب في أن ندرك) الأسباب الحقيقية لمشاكلنا
■ المهندس هيثم الشقيف
المدير العام السابق للشركة العامة للأسمدة
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 285