حب الوطن

استمعت مصادفة إلى طرف من حديث يدور بين فلاحتين وهما تعشبان الأرض.

قالت أم محمد: «كلنا نحب بلدنا.. في حد ما يحب بلدو؟»
أجابت أم عابد: «آني ما حب بلدي لأنو بلدي ما حواني . أنا مني صغيرة ما شفت غير الفقر والهم والتعب والعذاب . لقمة العيش ماني ملحقتها. عليش أحب بلدي»؟.
صدمتني كلمات أم عابد لأن حب الوطن في اعتقادي من المسلمات التي لا مجال للنقاش حولها. إلا أن هذه الكلمات وما حوته من مضامين أجبرتني على التفكير والتمعن بها، وساقني تفكيري إلى مراجعة ظروف حياة هاتين الامرأتين. فأم محمد تعيش مع أولادها وزوجها الناطور في إحدى المزارع في البيت المخصص له في المزرعة. وهو مسكن متواضع، ولكن يتوفر فيه الماء والكهرباء والتدفئة وحاجات ولوازم أخرى.
ولما كان أجر الزوج غير كاف لإعالة الأسرة، فإن الزوجين يعملان إضافة للعمل في المزرعة، بالمياومة خارج المزرعة لتأمين دخل إضافي يوفر للأسرة الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية ويمكّنها من إرسال الأولاد إلى المدرسة.
أما أم عابد، فهي أرملة تعيل أولادها. ولما ضاقت بهم سبل العيش في قريتهم في المنطقة الشرقية، رحلوا مع عدد من أقاربهم إلى ريف دمشق طلباً للعمل والرزق.. وسكن الجميع، وعددهم خمسة عشر شخصاً، في غرفة واحدة تقع في منطقة جرداء بأجر قدره /1500/ ليرة شهرياً، ولا يتوفر في هذه الغرفة لا الماء ولا الكهرباء ولا التدفئة ولا أي شيء من ضرورات السكن، وهي غير مبلطة، وشبابيكها لا تزال عبارة عن فتحات في الجدران، ولا توجد دورة مياه ملحقة بها. ضمن هذه الظروف القاسية يعمل القادرون على العمل من المحشورين في هذه الغرفة من الرجال والنساء بالمياومة عندما يتوفر لهم العمل. وبالمحصلة، يتمكن هؤلاء من الحصول على دخل جماعي يمكن بالكاد أن يسد رمقهم.
إذن اختلاف في ظروف المعيشة ينتج عنه تباين في الموقف، رغم أن هذا الاختلاف يقع عند الحد الفاصل بين توفر الحد الأدنى من متطلبات الحياة وبين العيش القريب من الحرمان.
وتذكرت في هذا السياق وضع آلاف المهاجرين غير الشرعيين من بلدان العالم الثالث الذين أضناهم الفقر والحرمان ودفعهم للهجرة من بلادهم، آملين الوصول إلى البر الأوروبي علّهم يجدون فيه ما يحميهم من الجوع، ويوفّر لهم بعضاً من متطلبات العيش تساعدهم على استمرار حياتهم رغم أن مسار هجرتهم محفوف بالمخاطر، إذ أن أعداداً غير قليلة منهم قضوا غرقاً أثناء إبحارهم في زوارق المهربين. إضافة إلى الصعوبات والمآسي التي تواجههم بعد وصولهم إلى البر الأوربي.
إن الوطن ليس مجرد الأرض التي يعيش عليها الناس، إنه الماء والغذاء والكساء والسكن والصحة والتعليم والثقافة والبيئة غير الملوثة.. إنه الروابط الاجتماعية بين الناس.. إنه الحرية والعدل والمساواة والطمأنينة والآمال. إنه كل شيء.
والمواطن يحب وطنه ويتمسك به، وهو على استعداد دائم لفدائه بحياته للحيلولة دون تعرضه لأي أذى، ولكنه يريد من وطنه أن يبادله هذا الحب. وتعبير الوطن عن حبه لأبنائه هو أن يمنح كل واحد منهم شيئاً مما يمتلكه من خيرات وضمانات تؤمن له حياة كريمة آمنة.
ويطلب من وطنه أن يكون عادلاً في تعامله مع أبنائه، فيمنح حبه للجميع بالتساوي، لا يفضل أحداً على أحد، فالكل أولاده ومحبوه. عندها يزداد حب المواطن لوطنه ويتضاعف استعداده للتضحية بحياته للدفاع عنه. لقد كانت كلمات أم عابد درساً عميق المضمون.. ولكنه درس قاس ومؤلم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
407