تخبط في استراتيجية التربية السورية
أن الفشل في التخطيط التربوي الهادف أساسا لتحقيق التكامل بين رأس المال المادي والبشري لانجاز تنمية اقتصادية اجتماعية يضعنا أمام تساؤلات حادة حول الأسباب التي قادت إلى مثل هذه النتائج .
هذا ويجب ألا يغفلَ الحكمُ على العملية التربوية النجاحات المرحلية المحققة بعد الاستقلال ، الناتج عنها تخفيض عدد الأميين وزيادة عدد الخريجين في المراحل المختلفة ابتدائي، إعدادي، ثانوي إضافة للمرحلة الجامعية في الاختصاصات المختلفة ولا يستطيع بالمقابل إغفال النتيجة النهائية التي وصلت إليها عملية التربية والتعليم كغياب القدرة على التحكم في فعاليات التربية والتعليم وتوجيهها نحو الأهداف الموضوعة والمفترض انها مدروسة بعناية ومخطط لها بدقة، حيث ان تكلفة الخطأ هنا ليست مادية فقط بل زمنية وهي اكبر من سابقتها ونتائجها اخطر منها. وما يعكس ويوضح هذا الفشل جملة من الأسباب والمؤشرات الكمية النوعية في مراحل التربية والتعليم في سورية . ففي المرحلة قبل الجامعية هناك جملة الأسباب والمؤشرات التي أفرزتها السنوات السابقة نذكر بعضاً منها :
-1 المناهج :
لم تستطع المناهج الموضوعة ان تلبي في هذه المرحلة التطورات الجوهرية في العلوم المختلفة بما يتناسب ووتائر تطورها على مستوى العالم .
إن التغيرات والتعديلات المستمرة في المناهج حتى بعد وضعها وإقرارها بوقت قصير
وضعت كلاً من الطالب والاستاذ في حالة عدم استقرار وضيقت الوقت اللازم والضروري لهضم هذه المعلومات واستيعابها ، ففي العام الدراسي 2002 -2003 مثلاً عدلت كتب الرياضيات ( التحليل، والتحليلية، الجبر) للصف الثالث الثانوي بعد ان اختصرت في مرحلة سابقة من اربعة كتب الى ثلاثة وكذلك كان نصيب كتاب القومية والعلوم والكيمياء دون اغفال الاخطاء المطبعية في كتاب الكيمياء من نفس العام والتي الحقت بملحق عمم على المدارس يحتوي على حذف اجزاء وتصحيح اخرى مع الاشارة للاخطاء الطباعية والتي وصلت في مجملها لاكثر من 100 خطأ. وفي عام 2003-2004 اعيدت الكرة وعدل كل من كتب الرياضيات السابقة و الكيمياء والعلوم .
من زاوية اخرى ان كم المعلومات الموجودة وحجمها وعدد ساعات المتاحة للتدريس.
والدراسة في العام لا تمنح الطالب والمدرس الوقت الكافي ليعطي المادة حقها الطبيعي للفهم والدراسة والتحليل وبالتالي تبتعد عن هدفها في تحقيق اضافة معرفية متكاملة هي جوهر العملية التربوية .
-2 الامتحانات :
فقدان طالب الشهادة الثانوية ثقته لا بنفسه انما بالاسئلة والسلالم والتصحيح والقائمين عليها وتخوفه الدائم من ان لاتكون نتيجته تتناسب مع ما بذله من جهد وعمل، يعكس هذا التخوف المقاييس المتغيرة وغير الواضحة والخاضعة للمزاجية والتي تقود للاحباط في الالية الامتحانية وخير مثال على ذلك ما شهدناه في بداية التسعينات وتحديداً اعوام 93،92،91 عندما وضعت سلالم التصحيح بحرفية قاتلة لطموح الطالب وبعيدة عن ابسط اشكال المنطق هدفها تحقيق نسبة نجاح تريدها الوزارة حتى وصل الامر في بعض الاحيان فقدان الطالب علامة السؤال او جزء منها لمجرد تغيير كلمة او حرف رغم ان جوهر الجواب مطابق تماماً للسؤال... هذه الحادثة التي تكررت لسنوات لاحقة سببت صدمة لمحوري العلم (طلاب /اساتذة) واسست لحالة جديدة في عقلية الاستاذ والطالب والتي بدأت بالعمل علىايجاد طريقة (تكتيكا) لتحصيل العلامة على حساب المعرفة والمحاكمة وذلك لضمان فرصة جامعية او غيرها .
من جانب آخر ان الخلل في آلية التصحيح الامتحاني كاخطاء جوهرية ادت بمستقبل كثير من الطلاب بسبب عدم قدرة المصحح في بعض الاحيان على استيعاب او تحليل حلول رياضية ابتدعها طالب في الحل وعدم تطرق سلم التصحيح لها ... او بسبب مزاجية ولا مبالاة المصحح نظراً للكم الهائل للاوراق المصححة وقلة المردود وشحاحته مقارنة مع الجهد المبذول والضروري لاعطاء السؤال المصحح حقه في العناية والتركيز (وهذا ما يعكسه وسطي اجرة تصحيح الورقة والذي يصل باحسن الاحوال الى1.5 ل.س ). نضيف الى ما سبق الاخطاء المتكررة في جمع العلامات او عدم تصحيح سؤال كامل في ورقة الاجابة في خطأ جسيم يتحمل مسؤوليته لامبالاة المصحح.
-3 الاجور والرواتب :
والتي تعتبر هزيلة وقليلة أمام الجهد المتوجب على المدرس بذله ليوصل علومه وخبراته العلمية الى طلابه والتي بالمحصلة تنعكس على اداء الطالب ومستواه . وتعتبر الاجور في سورية من ادنى الاجور على مستوى الوطن العربي حيث تصل لـ 100 دولار شهرياً لحامل الاجازة.
-4 الانفاق على التربية:
نأخذ الكلفة المباشرة (ماتنفقه الدولة بالسنة على الطالب) كمؤشر يعطي دلالة على ضعف الانفاق على التعليم في المرحلة الابتدائية والاعدادية /الثانوية فكلفة المباشرة للتلميذ في سورية تصل الى 100 دولار/سنة اما كلفة التلميذ عربياً فتصل الى 161 دولار/سنة . و في المرحلة الاعدادية /الثانوية فتبلغ الكلفة المباشرة للطالب في سورية 118 دولار/سنة وعربياً تبلغ 205 دولاراً/سنة وتعتبر هذه الكلفة اقل من مثيلتها العربية بحدود30-50% وتتضاعف هذه النسبة عند مقارنتها مع باقي دول العالم المتقدم. ويشير ضعف الانفاق هذا الى عدم العناية الكافية بالخريجين وعدم اعطائهم ادوات وعناصر جديدة لتصقل امكانياتهم وتحفزها وتزيد من خبرتهم خاصة وان المسؤوليات المستقبلية التي ستقع على عاتقهم كبيرة .
-5 نوعية المدرسين في المرحلة الابتدائية:
وخاصة خريجي الصف الخاص (دار المعلمين) حيث كان بعضهم من حملة الشهادة الثانوية الفرع الادبي الذين دخلوا المعهد بعلامات لاتتجاوز 120 درجة باحسن احوالها ليكونوا بعد سنتين اساتذة لاجيال دفعت ثمناً باهظاً نتيجة لذلك و يظهر ذلك بضعف القدرة العلمية لهؤلاء خاصة في المواد العلمية والتي ادت لانتاج جيل مرتبك علمياً مشوه معرفياً فاقد القدرة على المحاكمة العلمية . ويصور هذ الواقع حادثة مؤلمة حدثت في احدى المدارس الابتدائية في الريف عندما اعطت مدرسة الصف الثالث جدول القسمة وظيفة لطلابها 1÷1= ، 1÷2= ، 1÷3= ، 1÷4= وفي اليوم التالي عندما قدم احد التلاميذ وظيفته كانت على هذا الشكل 1÷1= 1 ، 1÷2=2 ، 1÷3=3 ... وعندما صححت الوظيفة وضعت المدرسة للطالب أحسنت وثابر...
-6 الحالة الاجتماعية الاقتصادية:
التي أفرزت حالات وتجاوزات ادبية تمثلت في عدم احترام الطلاب للعلم والمدرسين وحالات تمرد وقحة صرفت المدرس في كثير من الحالات للتحول الى ضابط للنظام في الصف والابتعاد عن مهمته التربوية مما يولد شعوراً بعدم جدوى جهده وفقدان الامل في الحصول على النتيجة المرجوة .
أما فيما يتعلق بالمؤشرات والاسباب الخاصة بالمرحلة الجامعية فلا تقل بمشاكلها عن المرحلة قبل الجامعية وتتقاطع في كثير من مشاكلها معها مع الخصوصية التي تتميز بها ونذكر من أهم المشاكل والمؤشرات التي تشير الى ذلك :
-1 حصة الاستاذ الجامعي من الطلاب الذين يشرف عليهم تصل الى35 طالباً لكل استاذ وهي نسبة تعتبر مرتفعة مقارنة مع النسب العالمية المقبولة والتي يستطيع الاستاذ التفاعل من خلالها مع طلابه والتي تتراوح بين 8-12 طالباً .
-2 واقع المحاضرات في الجامعات السورية والتي تتميز بالكثافة العددية للحضور فتصل في بعض الاحيان لاكثر من 450 طالباً في المحاضرة وغالباً ما يكون المحاضر في وادٍ والطلاب في آخر مما ينعكس على استيعاب الطلاب وتفاعلهم مع المحاضر وغالباً لاتتاح الفرصة للمحاضر نفسه ان يقدم ما في جعبته للطلاب ( هذا ما نجده في كلية الاقتصاد ، الادب ، بعض كليات الهندسة... ( . من جانب آخرفان صعوبة بعض المواد تعقيداتها والتي تترافق مع هذه الكثافة العددية أدت الى تفشي الدروس الخصوصية في الجامعة مما انعكس سلباً على وظيفة الجامعة ومكانتها الاساسية حيث تقلصت مهامها الى مكان لاداء الامتحان مما ابعد الطالب عن الاجواء العلمية وتفاعلاتها وقللت من انتمائه العلمي والجامعي والذي انعكس بالمحصلة على ادائه وانتمائه الوطني .
-3 تعدد الاساتذة المشرفين على مادة واحدة يضع الطالب في حالة صراع مع نفسه ومع اساتذته المشرفين مما يؤثر على الاداء العلمي والمعرفي ، وتحول هذه الظاهرة في كثير من الاحيان إلى فرصة للمنافسة السالبة بين الاساتذة أنفسهم والتي بدورها تلقي بنتائجها على العملية التعليمية وهدفها مما ينعكس على الطالب وطريقة دراسته التي تتحول إلى دراسة انتقائية تحقق له النجاح على حساب الهدف الاساسي الذي انشئت الجامعة لاجله.
-4 الانفاق الجامعي على الطالب والذي يختلف من كلية الى اخرى ومن اختصاص لاخر: ناخذ كمؤشر للانفاق، الكلفة السنوية، والتي تبلغ في سورية 505 دولارات/سنة للاختصاص النظري و1066 دولاراً/سنة للاختصاص العلمي وبمقارنتها مع وسطي الكلفة عربياً والتي تبلغ 956 دولاراً/سنة للاختصاص النظري و 2321 دولاراً/سنة اختصاص علمي نجد ضعف الانفاق على الطالب والتي تنعكس بدورها على ضعف اعداده وتاهيله في المرحلة الاخيرة والاهم من مراحل التعليم والضرورية لتحقيق ما هدفت اليه العملية التعليمية اساساً.
-5 فقر علمي حقيقي في الجامعات السورية بالمواد والاجهزة العلمية والمراجع الحديثة باللغات الاجنبية والعربية والتي تعتبر ضرورية لتاسيس حالة علمية بحثية جدية يحتاجها كل من الطالب والاستاذ، مما يؤثرعلى نوعية الابحاث المنجزة في الجامعات السورية والتي تعتبرمتواضعة في المستوى والنوعية مقارنة مع الابحاث في الجامعات العربية المجاورة او الجامعات العالمية وخاصة فيما يتعلق بالابحاث والتخصصات العلمية الدقيقة والمهمة ، وهذا ما يؤثر بدوره على عملية البحث العلمي والتي يعتبر وجودها في الجامعات السورية شكلياً مع غياب ابسط مقوماته وعناصره.
وبالنهاية ان هجرة اكثر من 315 الف اكاديمي سوري من مختلف الاختصاصات تشكل التخصصات العلمية منها اكثر من 80% وتزايد البطالة بوتائر مرتفعة في صفوف المتعلمين وانتشار البطالة المقنعة في وظائف الدولة وانخفاض الانتاجية يعكس بدقة عدم قدرة التطورات الاجتماعية الاقتصادية على استيعاب طاقات هؤلاء التي ضاعت علومهم وخبراتهم مع الزمن ويعكس بالتالي عدم وجود خطة دقيقة رسمت سابقاً لتفعيل امكانياتهم لحظة جاهزيتهم للعطاء . وبالتالي فان العملية التربوية التعليمية لم تصب هدفها المفترض في تحقيق التنمية الاجتماعية الاقتصادية ولم تفعل القطاعات الاقتصادية المختلفة بهدف رفع الانتاجية باشكالها المتعددة . وتتحمل الجامعات القسم الاكبرمن المسؤولية لابتعادها عن مهامها الاساسية ( التدريس، البحث العلمي ، وخدمة المجتمع ) لاننا لم نجن من خريجي الجامعات الا خسارة مليارات الدولارات (ما يعادل دخل سورية القومي لعدة سنوات ) هدرت بسبب سوء الادارة و عشوائية التخطيط .
ان الحاجة لجهود مضاعفة وامكانيات جبارة باتت ملحة اليوم لاخراجنا من حالة التخبط والضياع السابقة والتي قادتنا لما نحن فيه وذلك لتعويض الزمن والانطلاق من جديد. اي ان الحاجة لحمى سبونتكspontic fever تزداد ضرورة والحاحاً - وهي حمى أصابت الولايات المتحدة الامريكية ا يوم اطلق الاتحاد السوفيتي عام 1958 قمره الصناعي ( spontic ) مسبباً صدمة للاوساط العلمية والسياسية الامريكية ادت بهم لاعادة النظر في السياسات التعليمية ولاستراتيجيتها بعد ان شن العلماء والمفكرون والكتاب حملة نقد لاذعة على المعاهد التربوية ومدارسها ومناهج التعليم وخططها الدراسية واتهمتها انها لم تكن على مستوى المسؤولية التي يتطلبها العصر، هذه الانتقادات احدثت ثورة في التعليم الامريكي حصدت بعد سنوات قليلة اهم انجاز في تاريخ البشرية وهو نزول اول انسان على سطح القمر - لانها ستبقى املنا لتنقلنا بجدية ومسؤولية لاعادة النظر في كل ما يتعلق بالتربية والتعليم لا لشيء ولكن لنطلق اول قمر صناعي سوري .
■ عيسى سامي المهنا
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 230