لميس بيروتي لميس بيروتي

مشفى الباسل بطرطوس.. وسرطان الاستثمار!

مرة أخرى، نرفع الصوت عالياً لنسمع من يعنيهم الأمر.. نرفع الصوت هذه المرة لربما نلقى من يصغي لنا، ولنلغي نهائياً احتمال أن تكون المشكلة بخفوت أصواتنا لا بتجاهل من يسمعنا!

من المعروف أن الفساد أصبح وباء متفشياً، ولم يعد مجرد ظاهرة يشار إليها ويقرأ عنها هنا وهناك، إنه أمر واقع نعيشه كل يوم في حياتنا، من لحظة الخروج من المنزل صباحاً وحتى آخر النهار، وللأسف فنحن أنفسنا نضطر لمجاراته وممارسته قسراً في كثير من الأحيان.
ولعل الحديث عن الفساد بشكل عمومي لم يعد يستوقف القارئ كثيراً، بل أصبح الفضول في هذا الأمر، إن وجد، يدفع أصحابه للتعرف على أوجه جديدة للفساد لم تأخذ نصيبها من الشهرة بعد، وهذا ما يدفعنا نحن المكتوين بنار الفساد والمحاربين له، لتسليط بعض الضوء على تغلغل الفساد في أحد أهم المرافق العامة وأكثرها حساسية وهو قطاع الصحة، وتحديداً المشافي..
هذه الأماكن العامة أو (الحكومية) التي يناط بها أن تقدم خدماتها للناس، أصبحت في حالة كبيرة من التردي الطبي والخدمي والإنساني، وتحولت إلى مجرد مشاريع استثمارية مربحة على حساب المواطنين.. مشاريع يُتاجَر في أروقتها بحياة الناس وبصحتهم بأبشع وأشنع  الصور؟
يكفي المضطر للزيارة اليوم أن يصل إلى أحد المشافي الحكومية والتجول ببصره فيها، والاستماع لأحاديث نزلائها من مرضى ومرافقين ليقف على الحقيقة البائسة، وربما يصاب بالإحباط واليأس قبل أن يقع على كل الأسرار..
وعلى سبيل المثال لا الحصر، عند دخول المواطن إلى مشفى الباسل، هذا الصرح الطبي الضخم في محافظة طرطوس، الذي يلجأ إليه مئات، بل آلاف المواطنين العاديين الذين لا يملكون القدرة على قصد مشفى خاص، تبدأ رحلتهم مع مراحل الاستثمار. في مشفى الباسل الطرطوسي لا يمكنك أن تختار من الأطباء، أو بالأحرى التجار بكل أسف من تريد، فأنت في مشفى حكومي، لكن  بقدر مالك يعلو مقدارك. فكل طبيب له سعره المحدد، مع وجود ظاهرة التنافس (الشريف) فيما بينهم من حيث التسعيرة: (هيدا بياخد 5000 ل.س، وهيدا أشطر بدو 10000 ل.س)! يمكنك أن تسدد الفاتورة مسبقا لدى الطبيب الذي تريد في عيادته الخاصة، فتضمن منه أن يؤمن لك الخدمة الممتازة في المشفى.. وتبقى مبتسما يا أيها المواطن، فأنت ما تزال مرحوماً من  فاتورة المشفى الخاص، وما من داع للاعتراض أو الصراخ..
ثم.. عليك أن تتجاهل حالة البلاء التي يظهر بها المشفى.. فهذا مصعد معطل، وهذا مخصص فقط للموظفين.  الإنارة رديئة، والأسرة بالية، مع ازدحام مرعب بالمرضى. أيعقل أن يصل مشفى كهذا إلى هذه الحالة من التردي رغم رأس المال الهائل الذي رصد لاستحداثه؟ أين هي أعين المراقبين والمعنيين بمتابعة أمور هذا المشفى؟ لماذا هذا التردي وهذا التدهور السريع بعد انطلاقة مميزة على مستوى القطر شهدتها في البداية؟ أم أن البعض مستفيدون مما يحصل، وبالتالي ما هم في الواقع  إلا شركاء في هذا الاستثمار الذي يحدث  فيها، ولكل حصته؟ ما هذه المصادفة العظيمة أن تتفاجأ بغياب أغلب الكادر الإداري، وعلى وجه الخصوص التمريضي منه، الذي كان له الفضل الأكبر  في انطلاق هذا المشفى؟ وأين هم هؤلاء اليوم؟ أليس الأمر الطبيعي تواجدهم في المشفى، أم أن ذلك يتنافى ومبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب؟ كيف للأجهزة الطبية في هذا المشفى أن تهلك رغم مواصفاتها وهي في أوج عمرها الإنتاجي؟ من المسؤول عن الخلل أثناء التنفيذ ليصير البناء بحاجة إلى هذه العمليات الترميمية الضخمة  بكل ما يعني ذلك من كلف وهدر للطاقات والثروات، أم أن المال العام لا رقيب على طرق إنفاقه حتى وإن كان بعشوائية ودون دراسة مسبقة؟!
أليس هذا ما حدث عندما اتخذ القرار بهدم المشفى العمالي لإعادة إشادة مشفى أطفال، رغم أنه كان من السهل جداً على أي شخص عادي أن يلحظ بأنه بناء صالح ومعد أصلاً كمشفى، فما الحاجة للتكلف على هدمه ومن ثم التكلف لبناء جديد وتجهيزه من جديد؟ ألم يلحظ المشرفون بأن حديد المبنى مع الأنقاض لم يصدأ بعد؟ أما كان الأجدر بأن يتم هدم مبنى دار التوليد المجاور للمشفى العمالي، هذا البناء الذي أنفقت عليه مبالغ ترميم طائلة ما تزال إلى اليوم تنفق وتنفق، أم أن الاستثمار على هذه الصورة وبهذا الشكل، يعود بالريع الأكبر والأسرع على هؤلاء التجار؟
اليوم، اخترق الفكر الاستثماري كل شيء، كل الأماكن والمواقع، وكل الرؤوس (العامة، والخاصة).. حتى الأماكن المخصصة للشؤون الإنسانية، فأصبح المرء يتخوف من فكرة مرضه، فيمضي الوقت بالدعاء لله أن يمن عليه بدوام الصحة، لكي لا  يقضي حياته محاولاً تجميع ما يمكنه اقتناصه من دخله الزهيد ونفقات الاستهلاك اليومية  اللا متناهية، مخافة دخوله  المشفى أو زيارة الطبيب، فالعملية مكلفة، وليست بالأمر اليسير، وهو استثمار خاسر فيه لا محالة.
إلى أين ستصل هذه الأفكار الاستثمارية الحديثة؟ وما هي المشاريع الجديدة التي ستطرح؟ كم ستبلغ التكلفة الكلية لبلوغ الاستثمار مرحلته النهائية؟ وهل من مستفيد غير ركن رأس المال؟ ولربما السؤال الأهم هو: هل سيستمر البعض في تحويل المواطن إلى سلعة، فيكون قولاً وفعلاً رأس المال الحقيقي المهدور والمدفوع في  هذه المشاريع الاستثمارية لمصلحة المستثمرين الذين ينهبونه ويمتصون دمه؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
411