«عندما تنتشر الرشوة والفساد في بلد ما، فهذا لا يدل على فساد ضمائر الناس وإنما يدل على سوء توزيع الثروة» * ابن خلدون

وانطلاقاً من مقولة ابن خلدون (أعلاه) فإن أي محاولة للإصلاح والقضاء على الفساد تبقى في إطار الحلم المأمول البعيد المنال ويبقى كل جهد مبذول لهذه الغاية هو جهد غير حقيقي مالم يسبق ذلك بإجراءات اقتصادية اجتماعية تعيد كفة الميزان إلى وضعها الطبيعي من خلال العمل على إعادة توزيع الدخل بين الفئات الاجتماعية بشكل عادل يحقق خطوة هامة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية.

هدف التنمية وأساسها
وانطلاقاً من أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية تستهدف الانسان - المواطن، وانطلاقاً من أن لكل ظاهرة ميزانها ووحدة القياس التابعة لها والتي تساعد على التحديد الدقيق لمواصفاتها.. ينتج لدينا أننا بحاجة إلى وحدة لقياس أثر التنمية على الإنسان. إذ مهما تحقق من نمو، فإنه يعد بلا جدوى إن لم يرتبط وينعكس مباشرة على الإنسان. وقد أجمع الاقتصاديون على اعتبار مستوى المعيشة هو ذلك المقياس.
 وبالتالي فإن التنمية التي نطمح إليها هي التي ترفع مستوى الإنسان المعيشي والذي يأتي من رفع مستواه المعاشي ومن هنا تأتي الأهمية الاجتماعية لدراسة الأجور وعلاقتها بالأسعار. أما الأهمية الاقتصادية لهذا الموضوع فتأتي من أن الأجر هو المورد الوحيد للعاملين في كل القطاعات والذين يبيعون قوة عملهم مقابله، ومن ثم يشكل هؤلاء المساحة الأوسع مما يدعى بالطلب على المنتجات المحلية، هذا الطلب الذي يحرك العرض ويعطي المنتج الدافع ا لأساسي لإعادة الإنتاج وتطويره بما أنه يضمن «لتصريف» عبر الطلب...
ولا يتحقق تفعيل الإنتاج عبر تفعيل الطلب إلا من خلال التقارب المدروس بين الأجور والأسعار بحيث تتضاءل الفجوة بينهما، بل يفترض أن ينمو الأول بمعدلات تفوق نمو الثاني لتحقيق مستوى معيشة لائق، ولكن قصص الحب والتناغم تبقى غالباً في الروايات والقصص وتتحول في الواقع إلى خطوط بيانية يأنف فيها السعر الاقتراب من الأجر ومراعاة ظروفه فبينما كان الحد الأدنى للأجور عام 1963 (180) ل.س وكانت مجموع أسعار المواد اللازمة من أجل تلبية حاجات الفرد الأساسية من الطعام يشكّل ليرة واحدة يومياً فقط، فقد تطور ذلك حتى 3045 ل.س للأجر و51 ل.س بالنسبة للحاجات اليومية ماراً بنقاط يصفها الجدول المرفق.
وبالتالي فإن الفارق بين الأجور والأسعار قد وصل في عام 2000 إلى حوالي 300% (5100% ÷ 1692%) ويمكن تمثيل قصة الكره هذه بالرسوم البيانية المرفقة.

الأجور على حساب الأرباح وليس العكس
مازال بعضهم رغم كل الوقائع يجادلون حول عدم قدرة الحكومة على تمويل أية زيادة في الأجور بل ويتباهون بأن كتلة الأجور في سورية تشكل حوالي 20% من الدخل الوطني (مع العلم أن هذه الكتلة تشكل في البلدان المتقدمة نسبة تتراوح ما بين 40% 60% من دخلها الوطني( ولهؤلاء نقدم الاقتراحات التالية علهم يتحركون ويرون ما كانوا يتعامون عنه إذ أنه وبالأرقام يمكن ان نلاحظ:
أن الدخل الوطني في بلادنا يعادل حوالي 750 مليار ليرة سورية فإذا أسقطنا منه كتلة الرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص والتي تساوي 150 مليار ليرة سورية فيبقى لدينا 600 مليار ل.س تشكل كتلة الأرباح فإذا علمنا أن نسبة 25 إلى 35% تعتبر حدود أمان لفرض ضريبة على الأرباح في الدول النامية، وإذا أخذنا وسطياً نسبة 30% ضرائب على الـ 600 مليار أرباح فينتج لدينا 180 مليار ليرة سورية هي ضرائب «حلال زلال» مأخوذة فقط كضريبة على الأرباح وبالتالي إذا كلفنا هذه الضرائب بالشكل الصحيح فيتوفر لدينا 100 مليار ليرة سورية كإيراد جديد للخزينة يساهم في زيادة الأجور وبالتالي إعادة توزيع الدخل من جديد إن تلك القصة ليست كاملة إذ لايزال لدينا أيضاً مصادر للزيادة يمكن أن تشكل أنهاراً تسقي نسبة كبيرة من الكادحين وهذه المنابع هي كالتالي:
* نبعة إلغاء الإعفاءات الضريبية: إذ أن نصف الدخل الوطني معفى من الضريبة وهو يشكل مبلغ 375 مليار ل.س. وبالتالي فإن فرض نسبة الـ 30% عليه يوفر 115 مليار ل.س.
* نبعة التهرب الضريبي: الذي يبلغ حسب حسابات المختصين مبلغ 100 مليار ل.س وبالطبع فإنها لصالح ذوي الأرباح وليست لصالح التجار والصناعيين الصغار.
* نبعة التهريب: الذي يحرم خزينة الدولة من مبالغ كبيرة تتأتى عن طريق الرسوم الجمركية والضرائب التي يجب أن تفرض عليه، هذا بالإضافة لأثاره السلبية على السوق الداخلية، الأمر الذي ينعكس مرة أخرى على موارد الخزينة وهو يشكل ما بين 100 200 مليار ل.س وبالتالي فإن ضريبة 30% منه تساوي 45% مليار ل.س.
* نبعة الفاقد الجمركي: التي تذهب إلى هنا وهناك وكما يقول العوام «سرسقة» ولابد لمعرفة تفاصيلها من سؤال المفسِدين! وتبلغ على حساب المختصين حوالي 50 مليار ل. س، وتعتبر بحد ذاتها ضريبة لأنها تتراوح ما بين رسوم جمركية ضائعة! وضرائب مختفية!.
* ينبوع العدالة الضريبية: ولعل الكثيرين تحدثوا عن هذا الموضوع في إطار ما سمي بـ «الإصلاح الضريبي في سورية» وأهم نقطتين في هذا الموضوع هما : 1 هناك شرائح معفية من الضريبة منذ أعوام طويلة وحتى اليوم. ومع كل ماحدث خلال تلك السنوات من تضخم وارتفاع الأسعار وازدياد الأجر الاسمي عن الأجر الحقيقي فإن تلك الشرائح المعفية مازالت ضمن الحد الأدنى ولذلك فمن الضروري تعديل هذه الشرائح بحيث تتسع مساحة الحد الأدنى المعفى من الضريبة. 2 هناك حالة من عدم التناسب بين الضرائب على قطاعات الاقتصاد الوطني، إذ يفرض على قطاع الصناعة، على سبيل المثال، معدلات ضريبة عالية في الوقت الذي يعفى فيه قطاع الزراعة وتفرض على التجارة ضرائب تتقارب مع تلك المفروضة على موظف القطاع العام.
وبالتالي فإن كل تلك «الينابيع» تشكل مبلغ (180 مليار ل.س + 100 مليار ل.س + 45 مليار ل.س + 50 مليار ل.س =375 مليار ل.س) في الحدود الدنيا فلذلك فإن عبارة «من وين يا حسرة» ليست مقبولة بتاتاً هنا!

إنفاق الأسرة أعلى من دخلها
بالاستناد إلى أسعار مكونات الوجبة الغذائية الأساسية التي أقرها مؤتمر الإبداع الوطني والاعتماد على الذات فإن مجمل الإنفاق اليومي على الطعام للفرد الواحد في أيامنا هذه هو حوالي 51 ل.س وبالتالي فهو يعادل 1530 ل.س شهرياً وهذا يقارب أو يساوي عملياً مقدار خط الفقر المحدد بـ1500 ل.س شهرياً وهكذا فإن الإنفاق على الطعام وحده لأسرة مكونة من ستة أشخاص في الشهر هو 9180 ليرة وهذا للمواد الغذائية فقط أما إذا أضفنا إليها نفقات الحياة اليومية غير الغذائية من مواصلات وطبابة ومحروقات ومسكن وتعليم وكساء وأدوية ومياه وكهرباء ومنظفات وغير ذلك من الخدمات والتي تعادل وسطياً 1500 ل.س شهرياً لفرد الواحد، تصبح تكاليف الحد الأدنى للمعيشة + تكاليف الحد الأدنى للأجر الشهري لأسرة مكونة من ستة أشخاص يعمل منهما شخصان هو 9090 ليرة في حين أن الحد الأدنى لأجر اليوم وبعد الزيادة (الأخيرة( لايتجاوز 3045 ل.س مما يعني أن تكاليف الحد الأدنى للمعيشة تفوق الحد الأدنى للأجور بـ300%.

رغيف الخبز الدائري
لطالما انتقد البعض الفرانين و الخبازين لأنهم يصنعون رغيف الخبز بشكل دائري وهكذا الرغيف يدور ونحن ندور وراءه وبما أننا شعب ذو حضارة عريقة ، شعب وصل إلى السماء منذ القدم ومبدع في علوم الفلك والنجوم وقدم الكثير للبشرية فمن المعيب أن نضع عيوننا جميعاً على الأرض ونركض وراء الرغيف، لذلك فإن الحل هو أحد أمرين إما أن نرفع الأجور أو نحول رغيف الخبز إلى شكل مربع!.
تضخم... ولم ينفجر بعد
أما فيما يتعلق بالحجة الأخيرة التي يقدمها معارضو الزيادة الأجرية وهي حجة الخوف من التضخم فنقول لهؤلاء:
لقد تضخمت المشكلة بل وكادت تنفجر وما زلنا نزيد الأسعار زيادات تضخمية بأيدينا، في الوقت الذي تتعطش فيه السوق للسيولة وتخزن البنوك أموالاً طائلة متباهية بأنها تحقق معدل إقراض يقارب 305 من موجوداتها وبالتالي فإن أي زيادة حالية في الكتلة النقدية متناسبة مع درجة حاجة السوق لها وسرعة دوران النقود لن تؤدي إلى آثار تضخمية إطلاقاً.
الزيادة الثابتة الأخيرة.. عفواً!
وهكذا فإن تضخم الأسعار مع الزيادات الأجرية بشكل عام التي اعتمدت على رفع أسعار المحروقات مع ما سببه ذلك من سلسلة تفاعلات سعرية وبالتالي ارتفاع في أسعار المواد الاستهلاكية (يلي قبضوا باليد اليمين دفعوا باليد اليسار) أما الزيادة الأخيرة ونعتذر عن كلمة أخيرة فالمقصود بها هنا مقارنة مع الزمن الحالي مع عدم الحكم على المستقبل فإنها لم تعتمد على رفع أسعار المحروقات ولكنها احتكمت للمنطق نفسه فازدادت أسعار التبغ وتم الإلغاء الجزئي للدعم الذي وفر وحده مبلغ 20 مليار ل.س وتم غض النظر عن كل تلك المصادر المطروحة آنفاً! ونأمل أن يكون ذلك الى حين..

معلومات إضافية

العدد رقم:
165