مطبات: ملهاة الورق..مأساة الصحافة

انتشت بمادتها الصحفية الأولى، وباغتها صهيل عجيب كما لو أنها الساعات الأولى لمفاجأة ولادة أنثى جديدة بكامل مواصفاتها، ومشت إلى البيت تقلب الجريدة من غلافها الأول إلى غلافها الأخير منتشية بالنصر على أقرانها اللواتي طالما وجدن ضالتهم في المرآة، ورسائل المعجبين.
هو.. أحس للوهلة الأولى أنه وفي هذه اللحظة بالذات قادر على صعود منبر الخطابة الذي كان يشعره بالذعر والمهابة، والآن وبعد أول عباراته على الهواء انتصر صوته على دمامة لازمته من الصغر كما لو أصاب وجهه جدري أزلي، ومن اليوم سينام خلف الميكرفون، وينتظر همسات المستمعات في برنامج آخر الليل كما يفعل مذيعو منتصف الليل، وربما سيصبح ذات يوم سعيد محط إعجاب مروجي الإعلان وصوته علامة فارقة كمحمود سعيد أو عبد المجيد مجذوب.

حققت مغامرته الكبرى فصار دفعة واحدة رئيساً لتحرير مجموعة وسائل إعلامية..جريدة وموقع إلكتروني وفضائية محلية، ومجلة فنية..الخ مما أتاحته له فوضى الإعلام، وأتمها بحمد الله بمراسل لجريدة عربية يحضر من خلالها المؤتمرات الصحفية الرسمية، ويدعى إليها كما كل رؤساء التحرير الذين أمضوا في المهنة ثلاثين عاماً، وها هو يرتاح من أعبائها فقط بعد سنتين من العمل وسط خراب استثمار المطبوعات المفلسة.
هن.. مجموعات لا تملك سوى البحث عن ترويج سلعة الجريدة بكل ما يملكن من فتنة الاسترخاء وبالمقابل سيكون الثمن عقداً لنصف صفحة إعلانية في أحسن الأحوال، وفي لحظة لا تميز فتاة الإعلان بينها وبين أية بائعة تطرق الأبواب متوسلة من يشتري منها علبة مكياج رخيصة أو علبة معطر نسائي منعته وزارة الصحة قبل أيام في بيان لها يحذر من انتشار بعض المستحضرات التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان.
هي... قادتها أقدارها وكذبتها الأولى إلى أكاذيب تعدت سرقة مقال منشور، أو اقتطاع مئات الكلمات من موضوع زميل، ووصلت بها كذبة الأمس الصغيرة إلى حد أن لا تجهد نفسها سوى في استبدال عنوان المقال، و اسم المكان والكاتب.
في مقر صغير في شارع مزدحم بالمتسوقين اختار الرجل الذي تورط بالجريدة مكان نومه وإبداعه، وبعد سنوات من شرب الشاي وتدخين النرجيلة صارت الجريدة ملتقى علنياً لنمط يتكاثر من الباحثين عن صيد مدراء القطاع العام، وأما المتورط الكبير في إعلام اللحظة فيعترف بإمكاناته وقدراته ولكنها الحياة.
عضو مجلس شعب، وعضو حزب معارض، وكاتب صحفي، ومسؤول صفحة في الجريدة، ويكتب في الفن والأدب والسياسة، وأحياناً يخوض في الاقتصاد من باب المواطن المسحوق، ويحب الفقراء ويكتب عن معاناتهم، ويناضل في سبيل اللغة العربية، ويفضل الصحافة كبوابة لآرائه حول كل قضايا الناس والوطن، وذات يوم تمكن أحد المحررين من الامساك به متلبساً بتصحيح أحد ردود مسؤول محلي صغير مقابل اشتراك سنوي.
الصور التي مرت جاءت في مرحلة عودة بعض الروح إلى الصحافة الوطنية بعد طغيان المد الخاص القادم من بيروت وأثينا وبلاد الاغتراب، وركوب جيل من الانتهازيين وتجار اللقاءات المأجورة، وصحف المناسبات على كاهل الإعلام الوطني، وظنوا أنهم فرسان الكلمات والمنابر، وساعدهم على هذا الاعتقاد سلبية اتحاد الصحفيين، ووزارة غير معنية.
لقطات أقصها من واقع الصحافة السورية، وهناك الكثير من القصص التي يندى لها الجبين تدور في أروقة الخاص والعام، ويفاجئك أحد المستغربين لماذا يتم تناول الإعلام هنا على أنه فشل في نقلنا إلى صيغة أكثر تحضراً وتحرراً، وأن فجوة كبيرة بين المواطن والصحافة، وأنها في كل فتوحاتها لم تلق أي احترام أو هيبة لدى مسؤول صغير.