المحسوبية «الواسطة » ومبدأ تكافؤ الفرص

تقول المقولة الماركسية بأنه «يتغير إدراك المرء بتغير وضعه الاجتماعي» بمعنى أن الإنسان بطبيعته يتعامل مع مجتمعه من منطلق المكانة الاجتماعية والوظيفية التي يشغلها فيه، فعندما يعاني من وضع معيشي واجتماعي صعب وقاس يحاول ويناضل لتحسينه وأحياناً على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة وما إن يتمكن من تحسين وضعه ويصبح مسؤولا فوق كرسي ذي طابع وظيفي سلطوي سرعان ما ينسى ويتناسى وضعه السابق، كما ينسى أن هناك الكثيرين مثله مازالوا يعانون من المشكلة نفسها ويربأ عن مساعدتهم حتى ولو توفرت لديه الإمكانية لذلك.

من هذا المنطلق نعرف كيف أن كرسي المسؤولية ينتج وينشر في الغالب الفساد كـ ( الرشوة – العمولة – سرقة المال العام – الواسطة والمحسوبية – البيروقراطية )  وغيرها، فعندما يتمكن المسؤول من الوقوف فوق القانون بل و فوق الدستور ويتمكن من تعطيله يخلق البيئة الحاضنة لهذا الفساد فتسمح له بالانتشار والاستشراء وحجم الفساد لا شك  يتناسب طردا مع حجم المسؤولية.
إن هذه القضية ليست ذات طابع أخلاقي فقط بل لها طابعها المصلحي أيضا، فالمسؤول بدلا من أن يسخر مسؤوليته الوظيفية لخدمة الشعب وحل مشاكلهم يتحول إلى الآمر الناهي وما على المواطن المسكين إلا أن يذعن له.
وتعتبر المحسوبية ( الواسطة )وجها قبيحا من وجوه الفساد، وهي من أهم الأمراض التي يعاني منها المواطن في علاقاته بدوائر الدولة المختلفة،ذلك أن حق العمل حق يحفظه الدستور ويفرض على الدولة تأمينه لكل المواطنين على أساس مبدأ تكافؤ الفرص، ولكن ما يجري حاليا أن من يريد أن يعمل لدى الدولة عليه أن يسجل اسمه في  «مكاتب التشغيل» الموجودة في محافظته وعليه الانتظار لسنوات كي يتمكن من الحصول على عمل أو وظيفة لدى دائرة من دوائر الدولة أو في القطاع الخاص، وهناك على حد علمي من ينتظر ومازال منتظرا هذه الفرصة النادرة منذ أكثر من عشر سنوات بل ظهرت على شعر بعضهم علامات الشيب ولم يجدوا فرصة للعمل بعد، وأمام هذا الواقع فليست أمامه أية فرصة للعمل إلا الواسطة التي تفعل فعل السحر، والتي تؤمن له الوظيفة المطلوبة في لمحة عين  ولكن بعد أن يدفع المبلغ المعلوم لها، وهذه قضية لا يختلف عليها اثنان أبدا، بل إن المحسوبية قادرة على توظيفه وتشغيله في أماكن غير مؤهل لها أصلا،  ليس على أساس الرجل المناسب في المكان المناسب، بل على أساس الرجل غير المناسب للمكان المناسب، وحدث ولا حرج حينئذ عن إنتاجه ومنجزاته غير المناسبة، ويصبح مبدأ تكافؤ الفرص في خبر كان نتيجة لهذه الظاهرة، ومما لا شك فيه أن السبب الرئيسي في انتشار الواسطة يكمن في البطالة وحجمها الهائل الذي بلغ تقريبا الـ 30% من عدد السكان، أغلبهم من الشباب الذين يفترشون الطرقات ساعين لتأمين مصدر رزق يعتاشون منه لكن دون جدوى، فالحكومة ونتيجة لسياساتها الليبرالية في الاقتصاد السوري حولته من اقتصاد منتج  إلى اقتصاد ريعي، وتجاهلت أهمية رفع معدلات النمو إلى ذلك الحد الذي يتوازن ونمو عدد السكان في سورية البالغ 2.45% وهي من أعلى نسب النمو في العالم، وإن ضعف النمو الناتج عن ضعف الاستثمارات التي يجب ضخها في مجالي الإنتاج الوطني (الزراعة والصناعة) لدرجة حجبها من الحكومة السابقة ولم تحرك الحكومة الحالية أي ساكن لحلها أفرزت الحجم للهائل للفقر المنتشر الآن فـ 40% من المواطنين السوريين يعيشون عند خط الفقر الأدنى وهو ما يعادل 100 ل.س يوميا،  كل ذلك بسبب الخلل الحاصل بتوزيع الثروة بين الأجور 20% من الناتج المحلي والإرباح الذي يحصل على 80% منه، أضف إليه الفساد الذي ينهب حوالي  40% من الناتج المحلي تقريباً، وهذا أدى ويؤدي إلى نشوء ظاهرة تكديس وتمركز الثروات بأيدي القلة الذين لا تتجاوز نسبتهم الـ 5% من السكان، وأمام تنامي ظاهرة الفقر والبطالة يقف المسؤولون ليس عاجزين فقط يقفون غير مبالين بحل هذه المشكلة لتتوالى الخطط الخمسية الواحدة بعد الأخرى وتتفاقم المشاكل يوماً بعد يوم، بل لقد كفوا يد الدولة عن مواجهتها ومنعوا الدولة عن ممارسة دورها الاجتماعي ليركلوها في ملعب القطاع الخاص الذي كدس الثروات وأخرج كماً هائلاً من الأموال من ساحة الاستثمار ليحولها إلى عملة صعبة ويخزنها في بنوك خارجية، وهو العاجز أصلاً عن استيعاب هذا الحجم المخيف من طالبي العمل سنوياً، وعن خلق فرص العمل التي يحتاجونها والتي لا تقل عن 250 ألف فرصة سنوياً،  أضف إليها ما لا يقل عن 50 ألف فرصة أخرى لاستيعاب الفائض السابق بالتدريج .
والمثل المصري الذي يقول (أسمع كلامك يعجبني أشوف عمايلك أتعجب) ينطبق على الكثير من المسؤولين القاعدين فوق كراسيهم والذين يعيشون في بذخ يفوق بذخ «شهريار» في قصة ألف ليلة وليلة الذي دفعنا ويدفعنا لعدم التوقف عن هذا الكلام المباح .