من الذاكرة أذناب الاستعمار

ابتليت بلادنا عقب سقوط فلسطين في يد الاحتلال الصهيوني بقيام الحكم العسكري، ففي عام 1949 حدث أول انقلاب عسكري بقيادة الزعيم حسني الزعيم، أعقبه بعد أشهر انقلاب الزعيم سامي الحناوي وفي عام 1950 تلاهما انقلاب العقيد أديب الشيشكلي.
وتحت حكم العسكر عانى شعبنا الأمرين من القمع والإرهاب وكم الأفواه والزج بالمناضلين الوطنيين في غياهب السجون.

ومن ذكريات تلك المرحلة الديكتاتورية العسكرية، أذكر تماماً تفاصيل أول مظاهرة كنت من شهودها وحضورها يوم كنت طالباً في الصف السادس (الأول الإعدادي حينها) عام 1950 في التجهيز الأولى (التي سميت فيما بعد ثانوية جودت الهاشمي).
لقد كانت المظاهرة الأولى بالنسبة لي حدثاً فريداً بشكلها وتأثيرها، فقد شهدت مظاهرة تحتلف كل الاختلاف عما عرفته من إضرابات المرحلة الابتدائية.
احتشد الطلاب في باحة المدرسة الداخلية وهدرت الهتافات السياسية الوطنية، واعتلى السور الداخلي الفاصل بين قاعات التدريس والباحة طالب من الصف الحادي عشر اسمه طلعت، ليلقي خطاباً أمام الطلاب، ومن ضمن خطابه لفت انتباهي قوله «أذناب الاستعمار» فشط في ذهني الخيال، فأنا أعرف أن للحيوان على مختلف أنواعه ذنباً واحداً، فما هذا الحيوان الاستعمار الذي له أذناب عدة؟ المهم بعد الخطاب انتظم الطلاب في صفوف متراصة كل صف من ستة طلاب، تحركوا في مسيرهم حول الباحة يرددون بحماسة نشيد «يا ظلام السجن» الذي كانت تهتف به حناجر الوطنيين المعتقلين في السجون أيام الاحتلال الفرنسي:
يا ظلام السجن خيم

إننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل إلا

فجر يوم يتسامى
يا فرنسا لا تغالي
        
وتقولي الشعب ناما
سوف تأتيك الليالي
       
تطردي طرد الكلابا
 
واندفعت المظاهرة خارج بناء المدرسة لتجابهها عناصر الشرطة والأمن بالقمع والضرب بالهراوات الغليظة، وأصيب الطالب الخطيب في رأسه وسال الدم على وجهه، فهالني المنظر وأثار ألمي وغضبي على الشرطة، وسألت من حولي: لماذا يضربونه؟ وجاءني رد أحدهم: لأنه شيوعي. ولم تكن تلك المرة الأولى التي اسمع فيها كلمة شيوعي التي سمعتها مرات في أحاديث الناس في حيّنا دون أن تكون تعني لي شيئاً... أما الآن فالأمر يختلف فقد كانت بداية تفتح وعيي السياسي الذي شدني إلى صداقة الشيوعيين في الحي، ومن ثم ترسخت تلك الصداقة لتكون الدافع لانضمامي إلى صفوف حزب العمال والفلاحين عام 1954، ويعود الفضل بهذا الشرف إلى ذلك الطالب الشهم الذي لم يتح لي أن أتحدث إليه أو أحظى بصداقتة لكن شخصيته الرائعة مازالت تسكن عمق ذاكرتي ووجداني.