جامعة خاصة في القامشلي ولكن.. لمن؟!
منذ أن وطأت قدماي حرم المبنى المؤقت لجامعة المأمون الخاصة للعلوم والتكنولوجيا في القامشلي، لحضور حفل افتتاحها مكلفاً باجراء تغطية صحفية رسمية لـ «تشرين» أحسستُ بمرارة فائقة، لاسيما بعد أن وضع بين يدي أحد القائمين على الجامعة لائحة رسوم التسجيل الباهظة، لأتأكد مثل غيري بأن هذه الرسوم تفوق التكلفة العامة لرسوم التسجيل في أية جامعة عالمية!.
لقد كنت أحد هؤلاء الذين تابعوا دراستهم الجامعية في العاصمة، خلال مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وعانينا الكثير بسبب بعد الجامعة عن منطقتنا، وصعوبة أوضاعنا الاقتصادية، وهذا ما كان يحدو بنا باستمرار للمطالبة، بكل ما يمكن، من خلال الصحافة، أو العرائض عن طريق ممثلينا في مجلس الشعب، لافتتاح جامعة في منطقة الجزيرة، أُسوة بباقي المحافظات السورية، لاسيما أنني شخصياً كنت أحمل تصوّراً قد يكون عاطفياً ألا وهو: إن لم يكن في سورية سوى جامعتين، فحسب فلا بدّ أن تكون إحداهما في العاصمة، والأخرى في منطقة الجزيرة، حصراً، منطلقاً بمثل هذا التصور ربما الساذج ليس من أن الجزيرة مصدر مهم للخيرات بأنواعها!، بل لأن موقعها الجغرافي وبُعدها عن العاصمة، يجعلان مثل هذه الفكرة أكثر ضرورة..، وذلك انطلاقاً من جوهر المصلحة الوطنية العليا..!
وفي الحقيقة لم يخطر ببالي في يوم من الأيام، أن يتم افتتاح جامعات تابعة للقطاع الخاص في بلدنا بعامة، ربما نتيجة رسوخ فكرة الانحياز للقطاع العام في وجداني، هذا القطاع الذي يجسّد مصلحة عامة أبناء البلد، فيما لو أتيح له الكادر الوطني، المبدئي والمخلص...!، إلا أنني حاولت إقناع نفسي بادئ ذي بدء بأن من شأن وجود جامعة خاصة في مدينة نائية، بحاجة إلى الكثير من الرعاية، أن يزيد الاهتمام بها من قبل الجهات المعنية، ناهيك عن إتاحة مثل هذا الصرح العلمي والمعرفي المجال للكثير من أبنائنا الذين ضاقت خطط وزارة التعليم العالي عن استيعابهم، ليتم حرمانهم سنوياً من متابعة دراساتهم الجامعية، وبالتالي الحيلولة دون حصولهم على كفاءات تخصصية ستسهم في تطوير عجلة البناء، وهذا ما دفعني كي أتحمس وضمن هذه المعطيات تحديداً لهذا المشروع، والتفكير بمدِّ يد العون له، وعلى نحوٍ جدّي..!
أجل، لقد أصبت حقاً، وخلافاً لما كنت أحمله معي من تصورات سابقة أثناء متابعة وقائع احتفال انطلاقة هذه الجامعة، وبما يشبه خيبة الأمل. فالحضور برمته إلا من دفعه الفضول لمعرفة ما سيجري، كان من المسؤولين والوجوه الرسمية البارزة في المحافظة، إضافة إلى السادة الضيوف ممثلي وزارة التعليم والاتحاد الوطني لطلبة سورية وبعض رجال الدين!، وإن من تم تكريمهم كذلك كانوا هؤلاء أنفسهم..!، بمعنى توجه مجلس الأمناء في هذه الجامعة لأن يكون هذا الصرح التعليمي وثيق الارتباط بذوي المواقع والمسؤولية، لاسواهم، ممن هم معنيون أكثر بالعملية التعليمية! وعلى سبيل المثال: يوجد في منطقة الجزيرة، بعامة، ومدينة القامشلي بخاصة، كوادر وأصحاب اختصاصات علمية رفيعة، متعددة، لم يكن أحد هؤلاء من بين عداد المدعوين، أو المكرمين (ويبدو أنهم خارج أجندة هذه الجامعة)، ربما لبعدهم عن المصدر الرسمي للقرار، ممن وجدهم مجلس الأمناء على ما يبدو الأقرب إليه، وإلى مشروعه، لأسباب خاصة به..!
جامعة بلا طلاب:
وإذا كان الطالب الجامعي، هو المعنيّ أكثر من غيره من قبل أية جامعة، حيث أن وجود أية جامعة لايمكن تصوره البتة، دون طالب جامعي، فإنه يمكن بهذا الصدد تسجيل ملاحظة مهمة، تخص التجاهل الذي تم لدور الطالب الجامعي، ولو من قبيل الاستعراض في مناسبات كهذا، عادة، سواء من ناحية سماع رأيه، أو الإشارة إليه في الكلمات الاحتفالية التي تتالت على المنبر، إذ تم تناسٍ لافت لقضية جوهرية، مهمة أيضاً، تتعلق بهذا الطالب، نفسه، محور العملية التعليمية.
ترى أي طالب هذا الذي تروم هذه الجامعة الخاصة احتضانه، بإمكانه من الناحية الاقتصادية سداد ما يترتب عليه من رسوم سياحية خيالية، لاسيما أن هذه الجامعة الخاصة، وأسوة بشقيقاتها وبنات عمومتها وخالاتها إلخ.. قد تساهلت مشكورة جداً ولدوافع واضحة، لا تخفى على أحد في إلغاء شرط سنة التخرج، ونوعية الشهادة، متساهلة بالمقابل في اعتماد الدرجات التي غدت غينيسية في جامعاتنا الرسمية (للأسف) وكان الحري بها واستمراراً لهذه الشروط الحاتمية أن تسعى لتخفيض رسوم ومستلزمات الدراسة، أسوة بتوأمها التعليم المفتوح في أقل تقدير..!
إن إقامة أية جامعة خاصة في أي بلدٍ من بلدان العالم فيما لو لم تكن تابعة لجهة خيرية، مثلاً، وكتصور فقط، فإن الجهة ذات العلاقة، لابد من أنها ستضع في رأس قائمة مسوغات إقامة هذا المشروع خيالي الكلفة، ما ستجنيه من ثروة هائلة على الصعيد الاقتصادي، ولا أقول هنا: التجاري.. كما قد يخيل إلى المرء في مثل هذا المقام..
وإنصافا لكل ذي يد بيضاء حقيقية، يتوجه إلى العمل في مجال العلم والمعرفة، فإنه ينبغي التمييز دائماً بين من لا يفضل إقامة معامل أحذية، أو مداجن، أو شركات للتنمية الحيوانية.. إلخ. كأمثلة مفترضة،، على إقامة مركز علمي، لاسيما فيما لو لم يضطر تجارياً لأية مقارنة من هذا النوع، ومن هنا تماماً، يغدو كل من يفكر بتوظيف إمكاناته المالية، والإدارية، والفكرية في حال وجودها(في المجال العلمي) محط احترام حقيقي، لاسيما إزاء هيمنة الرؤية الأشد استهلاكية لدى العامة، انطلاقاً من اعتماد مقاييس عرضية. صارت لها سطوتها الآن.. بكل أسف.
وفي ظني، أن القائمين على هذا المشروع العلمي والمعرفي الضخم، لم يقدموا على التفكير في إقامة هذه الجامعة، استجابة لمحض نزوة، بعيد إصدار مرسوم خاص بافتتاح الجامعات الخاصة في سورية، فحسب، بل إنهم قد أجروا دراسات نظرية وميدانية، عميقة، ودقيقة، بهذا الخصوص، بل وربما، اعتماداً على تنسيق وثيق بعيد المدى مع الجهة العليا المشرفة على التعليم، وهذا من حقهم، كما أسلفت، بيد أن الدراية بواقع السواد الأعظم من أبناء هذه المنطقة من الناحية الاقتصادية يرتب على القائمين بمثل هذه الدراسة، إدراك حقيقة خلو منطقة الجزيرة من أية مصانع، أومعامل، حتى تلك المتعلقة بطبيعة انتاجها، وبالتالي إن وجود الأراضي الزراعية الخصبة في هذه المنطقة، لا ينعكس بشكل مباشر على سائر أبناء المنطقة، ناهيك عن أن اعتماد الجامعة عليها فقط وهذا ما لا أظنه، سيجعلنا أمام دراسة جامعية، مواسمية، تعتمد على رحمة الغيوم، وبالتالي ستكون هناك أعوام جامعية عجاف..!!، كما أن العاملين في حقول النفط في منطقتي: الرميلان الجبسة، لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة جداً من السكان..!
إن مثل هذه الحقائق، ستنسف أي تصور، غير مبني على أساس احصائيات دقيقة، لدى ممولي هذا الصرح، فيما لوان منهم من راح يقارن بين هذه المنطقة، أوأي بلد خليجي، مرجحاً توظيف رؤوس أموالهم ضمن سورية، لأسباب كثيرة، لا مجال لمناقشتها هنا.. ولعل ما يرجح مثل هذا الافتراض لدي، هو أن المعدل السنوي للرسوم التعليمية في كليات الهندسة أو التكنولوجيا، والعلوم الادارية، والمالية، واللغات الحية، والعلوم الإنسانية في هذه الجامعة، يتراوح ما بين خمسة وثمانين ألف ليرة سورية ومئة وأربعين ألفاً!، وأن الدراسة فيها تصل إلى خمس سنوات كما في هندسة نظم الحاسوب، وهو رقم مكلف وباهظ جداً، مقارنة بالدراسة في أرقى جامعات العالم، بل وبما في ذلك النفقات كلها التي تلزم..
بصراحة، علمت، من خلال حديث رئيس مجلس أمناء الجامعة د. مأمون الحلاق في حفل الانطلاقة.. أن الجامعة سوف تؤمن أرقى الوسائل العلمية المتوافرة عالمياً، وهذه بالتأكيد نقطة مضيئة، تضاف إلى نقاط كثيرة، ذكرناها، أو لم نذكرها تسجل في صالح الجامعة، وقد يأتي في مقدمتها تحويل المنطقة إلى مركز اشعاع معرفي مواز للدور الحضاري والاجتماعي والاقتصادي لأبنائها، ناهيك عن الإسهام في خلق حالة استقرار في المنطقة، بعد تعرضها لضروب الهجرة، وهجرة العقول..!، وكذلك التخلص ولو جزئياً من الركود الاقتصادي الذي ظهر في السنوات الأخيرة.
على نحو واضح.. لقد استعرضت آراء كثيرين؛ أولياء أمور وطلبة ومثقفين من أبناء منطقة الجزيرة، ليؤكد كل وعلى طريقته الخاصة أن لائحة الرسوم المعلنة جعلتهم يتراجعون عن غبطتهم التي أبدوها، عندما علموا لأول وهلة بافتتاح مثل هذه الجامعة في هذه المنطقة، إن لم أقل أن هذه الغبطة قد تحولت إلى غصة في حلوقهم، لأن وجود جامعة خاصة برسوم سياحية، لن يحل مشكلة أبناء خمسة وتسعين بالمئة من سكان المنطقة، بل سيجعلهم أمام أزمة أخرى من طراز خاص، سببها وجود جامعة على مرأى العين يحرم أبناؤهم من الاستفادة منها.. وكأن لسان حالهم قول الشاعر العربي:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول..
وبهذا فإن هذه الجامعة سوف تغدو الملاذ لأبناءالـ 5% من أبناء المنطقة دون غيرهم بل وإضافة إلى ما سبق يمكن القول: إن العديد من الأسر التي لم تكن لتسمح لبناتها بمتابعة الدراسة الجامعية في محافظة بعيدة، كان من الممكن أن تدفع بهن لمتابعة دراستهن قريباً منها، لو لم تكن رسوم الدراسة على هذا الشكل الغرائبي الذي يكاد لا يصدق...!
وما يجعل أي مطلع يشكك ببعض معطيات الدراسة الأولية، لهذه المؤسسة، وجود فرصة نادرة كانت متاحة أمامها وكان من الممكن أن تستغلها، تماماً، وهي افتتاح فروع دراسية لها علاقة بتاريخ المنطقة الغني، أو بيئتها الزراعية، بل، واعتماداً على دراسات اقتصادية، كان من الممكن أن ترتقي بمصلحة القطاع الخاص في خدمة المصلحة الوطنية العليا تماماًَ...
كما أن ثمة سؤالاً يفرض نفسه في هذا المقام، وبإلحاح، وهو: إذا كانت شهادة التخرج من هذه الجامعة معترفاً بها من قبل وزارة التعليم، إلا أن أحداً لم يشر، ولو بكلمة واحدة أثناء الحفل إلى مصير حامل هذه الشهادة بعد تخرجه، وهل ستسهم هذه الجامعة في تضخيم أرقام حملة الشهادات العاطلين عن العمل.. دون التخطيط لضرورة استيعابهم وفق خطة وطنية لتأمين فرص عمل حقيقية لهم؟.. مع أن هؤلاء عموماً سيكونون من المقتدرين فقط من أبناء الجزيرة، الذين استطاعوا شراء الشهادة بأموالهم..
وأخيراً، يمكنني أن أُشير إلى أن سائر الفرق الفنية المحلية التي شاركت في الحفل الفني الذي أَعقب احتفال انطلاقة جامعة المأمون شكلت لوحة فسيفسائية جميلة، أنعشت الأرواح في ظهيرة جزراوية عالية الحرارة والأخطاء اللغوية، ما جعلنا نغفر كل ذلك لمؤسسة طموحة، كما يبدو، لأنها جاءت لتجيب عن سؤال طرحناه منذ حوالي ربع قرن من الزمان، ولكن على طريقتها..؟!
■ إبراهيم اليوسف
● صحيفة تشرين الاثنين 13 تشرين الاول 2003