البقاليات تبيع الألبسة المدرسية

اختارت الأرض ثيابها حيث تعرف الفصول كيف تنتقي الألوان، ورفض الثلج أن يخلع ثوبه، وبقيت العصافير ترفرف سعيدة بريشها، أما الحرباء فوحدها التي نسجت أثوابها على أنوال كثيرة.

جميل أن نرى تلاميذنا وطلابنا وقد ذهبوا إلى مدارسهم يجمعهم لباس واحد وتتميز مراحل دراستهم من ألوانهم.

ولخمسين سنة مضت ارتدى طلبتنا في المرحلة الثانوية ثياب الفتوة منذ العدوان الثلاثي على مصر، ثم عممت على المرحلتين الإعدادية والجامعية. أحداث سياسية كبيرة مرت بعد ذلك على الوطن العربي دون أن يقدم هذا اللباس أية مساهمة ذات جدوى في الدفاع عن القضايا الكبرى، لا بل كان هامشياً حتى في القضايا الصغرى. وأستثني من ذلك كله فعالية هذا اللباس في المسيرات الكثيرة التي أحسنت صنع الشعارات دون أن تستطيع حفر خندق واحد.

لا أقلل من عزيمة شبابنا أو وطنيتهم، ولكنني أعتقد بأن التحرير لا يحتاج إلى لباس مدرسي عسكري موحد، وشباب الفيتنام هزموا الولايات المتحدة دون أن يعرفوا معنى كلمة اللباس العسكري الموحد، والانتفاضة في فلسطين تخوض معركتها الضارية منذ سنوات، ولم يكن (الحجر) بحاجة إلى مثل ذلك اللباس.

وإنها لسعادة أن تنهي وزارة التربية هذا اللباس العسكري من مدارسنا، ولعلها في هذا القرار قد حررت عقول طلبتنا من الانصياع إلى أوامر تصدر من فوق أو تحت والمطلوب تنفيذها دون تفكير أو مناقشة، وهذا أخطر ما يهدد عقول أبنائنا حين تحجب عنهم حرية التفكير.

ومن المؤكد أن الوزارة لم تستشر أحداً من أولياء الطلبة، أخذت قرارها ضمن الغرف المغلقة  دون أن تعرف أسماء اللاعبين ولا عناوينهم. هي تصرفت ولأن الموضوع تبديل قمصان فريق كرة القدم الوطني، لا فرق عندهم الأحمر أو الأخضر، خسر الفريق أم ربح..!!، وثمن هذه القمصان لن تعيق مناقشات الميزانية العامة للدولة.

ومن المنصف أن نقول بأن اللباس السابق كان عملياً بالنسبة للطلبة والأهل على حد سواء، ثمنه معقول يناسب جيوب جميع العائلات، قابل للغسيل أسبوعياً، ينسجم مع طبيعة الطقس في بلادنا خاصة في أوائل العام الدراسي وأخره، ولا يتأثر لا بغبار المقاعد ولا عجاج دير الزور.

أما اللباس الجديد فقد فُصّل وفق مزاج الوزارة، هي غيّرت اللباس العسكري الموحد، ولكنها تصرفت في التغيير وفق العقلية العسكرية الموحدة. فرضت رغبتها دون أن تراعي آراء الناس وأولياء التلاميذ.

ومن أولويات القضية أن دخل المواطن العادي كان أضعف من مواجهة شراء بدلة مدرسية جديدة واحدة، فكيف الحال مع أسرة مضطرة لشراء أكثر من بدلة؟ هي ترى في القرطاسية والكتب مشكلة، ولكنها ترى في الثياب معضلة. التموين يدعي أنه يراقب الأسعار، ولكنه في الموسم الدراسي الحالي استعاد المراقبون هيبتهم أمام البائعين، وإنها لفرصة يعزف فيها الطرفان على آلة واحدة تطنطن النقود بدلاً من الأوتار.

ثانياً: كم مرة يحتمل المعطف من الغسيل؟ في الحقيقة يمكن أن يغسل عشرات المرات، وعندها ستتحول كل المعاطف إلى خرق موحدة الألوان.

ثالثاً: عندما تكون الحرارة قريبة من الأربعين في أيلول وأيار، ماالذي سيخلعه طلبتنا في المناطق الشرقية من ثيابهم الموحدة.

رابعاً: ماذا سيصنع طلبة الشهادات في هذا العام بثيابهم المدرسية في نهاية الدراسة، ألم يكن بالإمكان استثناء هؤلاء الطلاب من اللباس الجديد؟!

هاهي أسواقنا تنتعش بمبيعات الثياب المدرسية ضاربة بعرض الحائط كل النظريات الاقتصادية، وحتى البقاليات صارت تبيع الألبسة المدرسية الجاهزة مادامت أرباحها أعلى من تجارة البرغل والبصل.

ورحم الله أيام الملك فاروق فقد انتعشت وقتها أسواق الطرابيش الحمراء لأن التعليمات الملكية ألزمت كل الطلبة صغاراً وكباراً ومعهم ا لأساتذة على ارتداء الطربوش، وكأن العقول لا تنضج فيها المعرفة إلا إذا سيّجتها الطرابيش.

ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن وزارة التربية نقلت الطلبة إلى المجتمع المدني، محتلة بذلك دوراً ريادياً تحسد عليه.

والآن بدأ شهر جديد في العام الدراسي وصار اللباس أمراً واقعاً، ولم تعد تنفع المساءلة. وعلى الأمهات ترشيد الاستهلاك قبل أن تمضي البدلات إلى الهلاك.

 

■ مفيد حداد