لون الأرض

قلما حظي مسؤول سياسي سوري، منذ الإستقلال، بما يحظى به وزير الخارجية الأستاذ فاروق الشرع من حب الشعب وثقته. لقد دخل قلوب السوريين، و معهم سائر العرب و أحرار العالم، من بابها العريض منذ أن «قال للأعور أعور بعينه» أمام سمع و بصر العالم بأسره في جلسة إفتتاح مؤتمر مدريد، معلنا -بين كظيم حقد الصهاينة و ذهول أسيادهم و حرج الأتباع الملهوفين- ثوابت السياسة الوطنية السورية التي لخصها الرئيس الراحل حافظ الأسد بعبارة جامعة: «لا تنازل عن شبر من الأرض أو ذرة من الحق والكرامة !»

 وإن نسينا للأستاذ الشرع من سجله الباهر فلن ننسى تلك الكلمات الرصينة-الصلبة التي خاطب بها العالم (المبهوت على رؤوس أطرافه) من على منبر مجلس الأمن، عشية الغزو الأنجلو-أمريكو-الصهيوني للعراق لإحتلاله بذريعة البحث عن أسلحة الدمار الشامل التي سبق لهم تزويد نظام صدام الفاشي بها

و في غمرة تداعيات هذا الغزو، ومنها تعرض سورية لأشد الضغوط التي واجهتها في تاريخها، أقله منذ الغزو العثماني لها و «إكتشاف» أمريكا قبل خمسة قرون (كما عبر الأستاذ الشرع نفسه قبل أسابيع)، يتزايد اللغط الغاضب في أوساط الشعب عن وجود تدخلات أمريكية في شؤون سورية الداخلية، وترافق ذلك مع نشاط لافت لأوساط من البورجوازية الجديدة وبعض شرائح «المثقفين» المنسلخين، لإنتهاز هذه الفرصة بإنتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب والمواقع الإقتصادية والسياسية، تمهيدا للعمل على نطاق أوسع للانعطاف بالأوضاع الداخلية الإقتصادية والإجتماعية والثقافية نحو مزيد من السياسات اليمينية المفضية للضعف وبالتالي الإنكفاء الذاتي لسوريا عن مجابهة الأخطار والتحديات الماثلة، وصولا (كما يأملون) إلى حرف السياسة السورية عن ثوابتها الوطنية والقومية فيما يتعلق بأراضينا العربية المحتلة ومجمل قضايا التحرر والتقدم. أي بكلمة شطب سورية من معادلة القوة و الصراع في المنطقة ومن ثم إبتلاعها بالكامل وفتح الباب على مصراعيه أمام السيطرة التامة للعدو العنصري الصهيوني وراعيه الأمريكي البشع.

إنها الطريقة التقليدية في حرب الحصون بالقرون الوسطى: «القلعة الحصينة لا تؤخذ إلا من الداخل». وقد برهنت سورية أنها كانت (بالمحصلة الأخيرة) تلك القلعة العربية شبه الوحيدة التي صمدت بوجه العدو الصهيوني رغم تفاوت القوى خصوصا بعد إنهيار الحليف الدولي،  حمت وحدة وإستقلال وعروبة لبنان، وكبحت قدر المستطاع سياسات التهافت والهرولة والتطبيع على الصعيد العربي منذ خيانة السادات وما تبعها في أوسلو ووادي عربة، ووقفت الموقف المبدئي الصحيح من الإرهاب المتأسلم المشبوه على أرضها نفسها وفي أفغانستان وغيرها، ومن حروب صدام المشبوهة وما تلاها من حصار وغزو واحتلال لأرض الرافدين.

واليوم تقف سورية في وضع إستراتيجي جديد (كما لا يفتأ يردد كولن باول بنوع مغلف من دبلوماسية الغطرسة والإرهاب)، وتعمل الإمبريالية الأمريكية (ومعها حلفاؤها الموضوعيون في الداخل) لوضع سورية في مسار «ليبرالي» و«ديمقراطي» (كذا)، ليس بغرض إصلاح مساويء الوضع وتراكمات الأخطاء كما يريد الشعب، بل بهدف نزع ما تبقى من عناصر القوة السورية قبل إعلان المواجهة المكشوفة. 

في هذه الأجواء المقلقة، ولأننا نثق بما يقوله الأستاذ الشرع، فقد تلقينا صباح الرابع عشر من أيلول الجاري بإرتياح تأكيده (خلال مؤتمر صحافي مشترك مع وزيرة خارجية أسبانيا) أن «سورية لن تقبل أبدا أية تدخلات أمريكية في شؤونها الداخلية». وبالفعل فلا شيء يعادل لدى السوري (عدا قلة معروفة) كرامته الوطنية، ولا يكره السوريون (أيضا عدا القلة إياها) أحدا في هذا العالم غير العدو الصهيوني وأسياده وراء المحيط. فلنتذكر صاحبة المطعم في باب توما التي طردت القنصل الأمريكي من مطعمها بكبرياء وشمم إبنة أقدم عاصمة في العالم، فكان أن حياها سكان حيها بإنتخابها لعضوية مجلس المحافظة. ولا ننسى مشهد فرار السفير الأمريكي (برفقة ثلة منبوذة من أصحاب المال والأعمال) من الباب الخلفي لأحد مطاعم حلب بعدما علم المواطنون بوجوده فتجمهروا هاتفين لفلسطين والعراق. وأخيرا وليس آخرا عزوف زوار معرض دمشق الدولي عن دخول الجناح الأمريكي (باعتراف مسؤولة الوكر«الثقافي» الأمريكي -المكلفة بتحسين صورة بلادها في عيوننا!- في حديث لأسبوعية «المحرر العربي»)

لكن إرتياحنا لم يدم طويلا، فمع صباح اليوم التالي توجهت ملايين أجيالنا الصاعدة إلى مدارسهم مرتدين تلك «الأزياء الحديثة بالألوان الزاهية العصرية»، التي فرضت وزارة التربية على أهاليهم شراءها من السوق بأغلى الأسعار وأردأ الأنواع، مبددة الثقة وزارعة في النفوس الحيرة والتساؤل. فمن سيقنع هؤلاء الأبناء والبنات أن هذا التغيير في اللباس المدرسي لم يكن رضوخا لتدخلات وضغوط أمريكية وقد إرتدى أسلافهم تباعا الزي العملي الميداني شبه العسكري منذ العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة عام 1956؟ 

فما عدا مما بدا ليخلعوه الآن ؟ 

هل زال الخطر عن سوريا أم هو اليوم أشد من أي وقت مضى ؟ 

هل تحرر العراق والجولان ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا والضفة والقطاع والقدس وعاد الشعب الفلسطيني إلى أرضه وقرر مصيره عليها أم أن الشوط ما زال طويلا قبل الوصول لذلك كله ؟ 

إذن لمصلحة من هذا الإيحاء النفسي بإنتهاء الصراع و إنتفاء الحاجة إلى هذا الشكل البسيط المعنوي من أشكال التعبئة؟ 

لقد بلغ الأمر ببعض أدعياء الثقافة  مرتدي اليسار لدينا حد المطالبة بإزالة ما أسموه «العسكرة» من المدارس والجامعات ومن المجتمع عموما بذريعة أنها تتعارض مع قيمهم الديمقراطية (جدا) وتحبط آمالهم «المدنية» المستقاة من فاكلاف هافل وأضرابه. ونسألهم: هل عمد الكيان الصهيوني إلى إلغاء التعبئة العسكرية (الجدية جدا) في مدارسه والكف عن تدريب فتياته وفتيانه على فنون قتل العرب بأحدث الأسلحة الفتاكة ؟ أم أن شباننا يراد لهم أن يكونوا أقل استعدادا للذود عن الوطن من أبناء مغتصبي الجزء الجنوبي الغالي من هذا الوطن ؟

كنا نود لو إمتدت يد «الإصلاح التربوي» لإضفاء الجدية والكفاءة على التدريب العسكري المدرسي («أسوة» بالكيان الصهيوني !)  رفع سوية الإعداد والوعي والتعبئة الوطنية في المدارس، ومحاربة «أخلاقية» الميوعة والفردية واللامبالاة والاستهتار التي تبثها شرائح البورجوازية الجديدة المتفسخة، الذين لا يتورع بعضهم عن إلباس أبنائهم وبناتهم البناطيل والقمصان التي تحمل رموزا وألوانا أمريكية، والرطن المبتذل بكلمات وعبارات ومفاهيم عولمية متأمركة، بل والتبرع للعدو -دون أدنى شعور بالخجل- بشراء تلك العلب القذرة من سموم اللفائف الأمريكية المتوفرة لدى محال «النخبة» أكثر من توفر اللفائف الوطنية.

ثم ما به اللون الخاكي؟ أليس هو لون الأرض؟ فهل نسي الأرض بعض المشرفين على العملية التربوية من أبراجهم العاجية؟ أم أن هناك من وراء المحيط من يريد لأبنائنا نسيان لون أرضهم تمهيدا لتحفيظهم خطوطا أفقية حمراء ... وزرقاء؟

 

■ بشير يوسف