حول ما بقي من قصور العيش في سوق ساروجة صدر قانون حمايتها

 مجموعة من الكتل الاسمنتية، متراصة مع أبنية دمشقية قديمة، يؤمها ألوف السياح من كل الألوان وكل الجنسيات، قطعة من دمشق اقتطعتها يد المهندس الفرنسي أيكو شار من جسم دمشق بمخططه التنظيمي، كما اقتطع الكثير من حارات و شوارع دمشق وحدائقها. سوق ساروجا بعد أن باتت الكثير من قصورها وبيوتها مجرد أطلال تهيم بها ظلال النور والعتمة، وأرواح العشرات من الثوار والمناضلين وتاريخ يزيد عن 900 عام..  

أخيراً صدر قانون بحماية اسطنبول الصغيرة كما يسميها الكثيرون، بسبب الدورالتنويري الذي لعبه هذا الحي إبان الحكم العثماني، وليس بسبب نشأتها العثمانية، وذلك أن هذا الحي شيد منذ أيام الأيوبيين، وقبل دخول العثمانيين بكثير.

نضال حقيقي كما أخبرنا معظم من التقيناهم، زاد على 18 عاماً، تفعل في السنوت الأخيرة بشكل كبير حتى استطاع أهالي الحي أن يحتفلوا أخيراً بنصرهم، فأنقذوا ما تبقى من هذا الحي وينتظرون أن يعيدوا بناء ما ابتلعه اسمنت واسفلت المدينة الحديثة.

هذه المنطقة التي يقع فيها بيت السماوي (فندق الربيع حالياً) وفيه كان أول مؤتمر لأهالي دمشق للتخلص من الحكم العثماني، بالإضافة إلى بيت هولو بيك العابد والد محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية العربية السورية، والذي تحول إلى مدرسة خرجت الكثير من الشباب السوري المتعلم، والذي تحول إلى أنقاض، وبيت خطاب،وحمام الجوزة المغلق منذ سنوات، وغيرها الكثير الكثير من القصور والبيوت التاريخية، أصبحت محمية بعد صدور قرار من مجلس الوزراء بحماية هذه المنطقة.

بداية عملية الإنقاذ:

■■ لقد كانت حملة بكل ما تعنيه الكلمة، هذا ما قالته الأنسة لونا رجب (رئيسة لجنة حماية المدينة في جمعية أصدقاء دمشق)، تضافرت فيها جهود الجميع. عملنا على جميع الصعد، كان هدفنا الرئيس منذ البداية أن نسجل جميع الأحياء القديمة خارج السور، وبدأنا بسوق ساروجا بسبب وضعها التتنظيمي الخطر، وموقعها في قلب المدينة، كانت خطتنا تتلخص في عدة أمور أولها هي أن يفهم الناس ما هي ساروجا، ونحن لا نملك أي سلطة حقيقية بل كانت سلطتنا هي سلطة (إنسانية/اجتماعية). 

بدأنا بندوة كبيرة ضمت عدداً كبيراً من الشخصيات التي اهتمت بساروجا وتعرف القيمة التاريخية العمرانية والإجتماعية لها، وكان لهذه الندوة الأثر الكبير فيما كان لاحقاً، لنقوم بعد ذلك بمعرض ضم صوراً لبيوت وشوارع ومرافق السوق، وعرض لمجموعة من المخططات التنظيمية، بالإضافة إلى المقترح الذي قدمته كلية العمارة من أجل السوق، وهو عبارة عن ماكيت موجود في المحافظة. وتخللت كل هذه العملية مجموعة من الجولات التعريفية بالمنطقة، كان الهدف الرئيس من كل ذلك هو أن نلفت نظر السلطات على أهمية هذه المنطقة لحمايتها معمارياً وعمرانياً واجتماعياً، واقتصادياً، وحماية كل ما تمثله هذه المنطقة. أردنا أن نوعي الجميع حول أهمية هذا الحي كجزء أصيل من دمشق القديمة.

ورحنا نستضيف كل الأشخاص المهتمين ونرفع الكتب إلى كل الجهات المعنية حتى نصل إلى حماية هذا السوق أولاً ومن ثم إعادة تأهيله. لقد قابلنا تعاوناً ملفتاً للنظر من كل الجهات المعنية جميع مديريات الآثار، وكلية العمارة وبالأخص المحافظة والتي تعاونت معنا بشكل كبير.

كما يعود الفضل الكبير لأهالي الحي الذين شاركوا وبشكل غير مسبوق بهذه الحركة، فكنا نتفاجأ بالأعداد الكبيرة من أهالي الحي الذين كانوا يحضرون الندوات حتى أنه في الكثير من الأحيان كانت أعداد الحضور في المركز الثقافي في المزة تصل إلى الخارج.

وكانت مشاركتهم في النقاشات التي كانت تدور هامة وذات أثر كبير، ففي إحدى الجلسات تحدث أحد تجار العقارات بلا مبالاة عن أهمية السوق، فكان رد فعل أهالي الحي مثيراً للإعجاب فوقف أحد السكان وقال له: إن من يتعرض لتاريخ وتراث البلد ليس إلاّ خائناً. فمن يريد إلغاء هذا التاريخ وهذا التراث؟

■■ أما محمود الموصللي  والذي دخلنا إلى محله لبيع العصافير في سوق ساروجة فاستقبلنا فرحاً بهذا الانتصار وعاد في النضال من أجل حماية السوق إلى أكثر من 18 عاماً بشتى الوسائل والطرق ، بدأت بمجموعة من الكتب الموجهة إلى مجلس المحافظة مروراً بالصحافة، وصولاً إلى التوجه إلى مجلس الشعب، وأكد السيد محمود الموصللي من خلال حديثه الذي يحمل الكثير من الحنين والذكريات إلى الماضي، على عروبة هذا الحي، إنتمائه وارتباطه الشديد بالنسيج الاجتماعي الدمشقي.. 

■■ وعلى مقربة منه كان يحيى الحر  مشغولاً في دكانه لصنع وبيع البوابير، هذا الدكان الذي يعمل فيه منذ 60 عاماً، نظر وكأنه لم يكن مصدقاً كان فرحاً بهذا القرار، وراح يرشدنا إلى البيوت والأشخاص الذين كانوا يقطنون هنا، قائلاً: إن هذا المكان ليس مجرد أبنية فقط إنه تاريخ طويل، لقد وعيت على هذه الدنيا وأنا هنا، 60 عاماً أعرف كل دقائقه وكل الأشخاص الذين عاشوا وماتوا هنا، لم أكن أود الرحيل عن هذا المكان وكم أنا سعيد لأنني سأبقى.

■■  ثم أرشدنا إلى مجموعة من السياح الذين كانوا يقفون أمام الفنادق الصغيرة المنتشرة في سوق ساروجا والتي  تمتلئ تماماً في موسم السياحة، ولا يقبل الكثيرون أن ينزلوا إلاّ في هذه الفنادق، كما شتيف وليندا اللذان يواظبان على زيارة سورية كل سنتين، وعبرا عن فرحتهما  بحماية سوق ساروجة.

ما بعد الحماية:

■■ أوضح مدير آثار دمشق الدكتور موفق دغمان أن هذا القانون يمثل تكامل الأدوار الذي لعبته جميع المؤسسات والهيئات لحماية هذا الحي الدمشقي، وأضاف د. دغمان إن ما وصلنا إليه حتى الآن هو أمر جيد لكن لا يكفي فعلينا المتابعة من أجل حماية هذه المنطقة فإن صدور هذا القانون دون تفعيل الآليات والسبل للنهوض بهذا الحي وإعادة بنائه لن يؤدي إلاّ إلى المزيد من تدهور وضع هذا الحي، وأوضح أن الصعوبات التي يمكن أن تواجه إعادة ترميم هذه المنطقة بسبب موقعها في قلب البلد وقال: علينا أن نلبي متطلبات المدينة من النواحي السياحية والاقتصادية، ينبغي تنمية المجتمع المحلي لتتحول إلى مركز إشعاع ثقافي، بما يخدم المدينة بشكل عام على ألاّ نغفل حقوق الناس الناتجة عن التنظيم السابق بحيث تنصف حقوق هؤلاء الناس، هناك آليات للوصول إلى هذه الأهداف  تنطلق من وضع مصور إداري للموقع، مصور توجيهي، وقد قدمت كلية العمارة مجموعة من التوصيات تحمل نواةً هامة يمكن الاستفادة منها.

بالإضافة إلى كل ذلك هناك تداعيات إنشائية ومعمارية وعمرانية لا يمكن السكوت عنها، فعلينا الإسراع  وفتح الأبواب لإعطاء رخص الترميم، والأهم من كل ذلك هو أن لانقع في فخ انتظار الحلول المتكاملة والتي تحتاج إلى الكثير من الوقت، بل يجب أن نبدأ بكل الخطوات الممكنة والسريعة حتى نستطيع إنقاذ ما نستطيع إنقاذه.

وفي سبيل ذلك يجب أن تقدم مجموعة من التسهيلات من قبل المؤسسات في هذا المجال منها: توفير البنية التحتية وبسرعة مناسبة، إعطاء قروض معفاة من الضرائب أو طويلة الأمد، بما يتوافق مع القوانين ،تخفيف الضرائب عن الناس في هذه المناطق مما يسمح لها بالتطور السريع.. 

وأضاف الدكتور دغمان، إن السلطات أعطت الكثير من التوجيهات الصريحة لحماية كل المناطق الأثرية بشكل أمثل وهناك تصميم حتى نستطيع تقديم دمشق للأجيال القادمة بصورة لائقة كعاصمة ثقافية تاريخية. ولم نكن لنستطيع إنجاز ما أنجز إلاّ من خلال تكاتف الجميع بدءاً بأهالي المنطقة وصولاً إلى جميع الهيئات والإدارات المعنية.

البدء من جديد

■■ كانت لونا رجب تتحدث عن الحي بإحساس عميق، كحالمة تريد أن ترد الروح إلى هذا الحي الدمشقي العتيق، حدثتنا عن كيفية تشييد الأبنية الدمشقية القديمة، وعن الشوارع، وعن طبائع أهل الحي، وعن تاريخه، وأرشدنا يحيى الحر إلى الكثير من المعلمين الذين لا يزالون على قيد الحياة والذين يستطيعون أن يعيدوا الحياة إلى سوق ساروجا بخبراتهم في مجال بناء البيت العربي..

 

■■ الآن وبعد صدور القرار أكد الجميع أنه يجب التفكير وبشكل جدي بالاستمرار بنفس الروح لكي نستطيع ترميم الحي... وأن يستمر الجميع بحركة حقيقية ليعود الحي إلى سابق عهده، وألا يترك ليتداعى وحده. وأكدت الآنسة لونا رجب على استمرار التحرك الذي بدأ باتجاه بقية الأحياء الدمشقية الهامة، كالصالحية، والميدان، والخجا، والكثير من المناطق الأخرى.