دردشات بانتظار الطحين

نتيجة استمرار العمل بقانوني الطوارىء والأحكام العرفية، لأكثر من أربعين عاماً، غابت الديمقراطية وضعفت المراقبة والمحاسبة، وعم الفساد واستشرى في أغلب مفاصل الدولة عامة، وفي مؤسسات القطاع العام خاصة، وأدى إلى سلب ونهب خيرات الوطن، حتى بات ـ هذا الفساد يشكل أحد أبرز أسباب تدهور اقتصاد الوطني، والعقبة الرئيسية أمام رفع مستوى حياة الشعب المعاشية، عدا عن أنه أهم الركائز الداخلية التي من شأنها أن تستنتد إليها قوى التآمر الأمريكية ـ الصهيونية في هجمتها المحمومة على أمن وسلامة شعبنا ووطننا الحبيب.

صفحات كثيرة كتبت، ومسؤولون سياسيون وحزبيون وكتاب ومفكرون، تطرقوا إلى موضوع الفساد ودوره السلبي في حياة البلاد، وأهمية محاربته ومحاسبة الفاسدين الكبار خاصة، لكن دون جدوى. الأمر الذي أثار تساؤلات شتى مشروعة لدى المواطنين: «هل تكرس الفاسد قاعدة محمودة وأصبح الإخلاص والنزاهة شواذاً مستهجنة مذمومة؟ هل تحول الفاسدون إلى قوة متنفذة ولا يجرؤ أحد على الإشارة إلى سرقاتهم، بل محاسبتهم؟ ثم ما المصير البائس الذي ينتظر اقتصاد البلاد في ظل سيطرة هؤلاء الفاسدين، على مقدرات أموره، وتحويلهم القطاع العام، إلى إقطاعات خاصة موروثة، حتى أوصلوه إلى الخصخصة وعرضه للاستثمار؟»

إن ظاهرة الفساد المرعبة، التي انتشرت على كل شفة ولسان، بحيث لم يعد بالإمكان تجاوز معالجتها، تناولها المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأدرجها كأحد قراراته الهامة.

وعلى الأثر انطلقت وفود القيادة القطرية تجوب المحافظات، وتلتقي الأطر القيادية والنقابية... وتطرح معها القضايا التي أقرها المؤتمر، ومن ثم توجهت القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية، برسالة إلى رئيس مجلس الوزراء ـ وهذه بادرة إيجابية جديدة ـ طالبته فيها بمعالجة هذه القرارات، ومن بينها، طلب (إعداد مشروع متكامل لمحاربة الفساد)، وأخيراً صاغ اجتماع الأمناء العامين لأحزاب الجبهة، وثيقة بعنوان: حول محاربة الفساد. الأمر يبدو بهذه التوجهات والنشاطات، إنه يدخل في باب الجدية أكثر منه في أي وقت مضى، ويمكن معه القول ـ كما يردد في الريف ـ إنه مثل الصحيح.

تحضر لي طرفة قرأتها قبل حوالي خمسة عقود مفادها: إن الرئيس الراحل عبد الناصر، قرر أن يشكل لجنة لمحاسبة الفاسدين، فاقترح أحد كبار المشمولين بالفساد، على الرئيس أن يضمه إلى هذه اللجنة. ضحك الرئيس كثيراً وقال: عندئذ سنحتاج إلى لجنة أعلى لتحاسب أعضاء هذه اللجنة. فنأمل إبعاد لجان حملة محاربة الفساد ـ التي ستشكل ـ عن تسرب الفاسدين إليها، لأنها عندئذ قد تدين الصغار، وتبرر أو تخفف جرائم الكبار، وتنقلهم إلى مديريات أخرى، أو تسرحهم في أفضل الأحوال، وتكون حليمة قد رجعت إلى عادتها القديمة.

أعتقد أن من حق الجماهير الشعبية التي تعاني الأمرين، من تدني مستوى حياتها المعيشية، أن تشك في كل وعد بالإصلاح، أو في تحسين وضعها، طالما خبرت الكثير منها ووجدتها خلبية. لكنها في الوقت نفسه ولتعلقها بالأمل، لها الحق أيضاً في أن تستبشر بهذه التوجهات الجديدة، لعل وعسى أن تؤدي لا إلى إزاحة الفاسدين عن كراسيهم الوثيرة وحسب، بل ومحاسبتهم انطلاقاً من مبدأ (من أين لك هذا) لاسترداد ما سرقوا من مال الشعب لصاحبه الشرعي، والشعب ينتظر الطحين.

 

■ عبدي يوسف عابد