نزار عادلة نزار عادلة

مساكن عمّرها الفساد.. مزة 86 نموذجاً

منذ أن بدأت الاضطرابات الأمنية في سورية، وزحف المخالفات العمرانية يتوسع في جميع المدن والبلدات، وذلك في غياب قمع المخالفات لأسباب تتعلق في تشاركية المصالح بين متصيدي فرص فوضى البناء والأوصياء على رسم المخالفات وتجار القوانين.. خلال الأشهر الستة الماضية قامت تقريباً مدن وأحياء كاملة في البلاد، بشكل يدعو الإنسان إلى السخرية في عالم تسوده الفوضى البصرية والتلوث البصري.

الجديد القديم

المشكلة ليست وليدة اللحظة أو نتيجة الأحداث الجارية، فهي تعود إلى أكثر من 40 عاماً، وخلال هذه السنوات تضاعفت وازدادت حدةً حتى باتت الأحياء المخالفة سمة عامة لوجه المدينة السورية.

ولا يمكن الحديث عن تجار وسماسرة العقارات ودورهم، دون العودة إلى الفساد الحكومي وانعدام التخطيط العمراني، إذ ما زالت المخططات العمرانية على حالها دون توسع منذ سنوات طويلة، وحدث تواطؤ بين بعض المتنفذين وتجار الأرض والعقارات وتشكلت مافيا تحكمت بالمواطن.

أين الخطط؟

في العام 2003 صدر قانون خاص لمعالجة مشكلة المخالفات السكنية أو الحد منها، ولكن المخالفات ازدادت وتوسعت في ظل هذا القانون مناطق المخالفات، وقد أفسد القانون من لم يكن فاسداً قبل صدوره. وقد تساءل رئيس الحكومة السابق مرةً: ماذا نفعل بمناطق السكن العشوائي؟ وقال: لا نسمح باتخاذ قرارات بشأنها دون مراعاة البعد الاجتماعي. وطبعاً تبع ذلك الكثير من التصريحات والقليل من الخطوات للبدء بتسوية وضع المخالفات وإزالة أكثرها. 

خطط ولكن

حتى العام الحالي، إحدى عشرة خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تم تسجيلها، ولم تستطع هذه الخطط أن تقيم تنمية اجتماعية توقف الزحف البشري من الريف إلى المدينة، وتحديداً إلى دمشق، وقد تم بموجب هذا البناء الاقتصادي الغريب ترييف المدينة بدلاً من تمدين الريف، فلم يجر الربط في خطط التنمية فيما بين فروع الزراعة وفروع الاقتصاد الوطني الأخرى، لا من حيث العلاقات المادية ولا القطاعية الإنتاجية أو التسويقية أو السعرية أو التحويلية، كذلك لم تجر مسوح للأراضي في سورية أو معرفة صلاحياتها لزراعات معينة وإنتاج معين، ما نجم عنه ولأسباب أخرى عديدة: التشتت والفوضى في الزراعة وعدم كفاية الخدمات إن لم نقل انعدامها في الريف والفقر وعدم وجود عمل، ما زاد من النزوح إلى المدينة. 

لوحة مقلقة

لوحة مقلقة، لاسيما أن العوامل المساعدة على تفاقم النزوح من الريف إلى  المدينة مستمرة، فعندما نتوجه من حمص إلى طرطوس واللاذقية نجد قصوراً شامخةً مزروعة فوق الهضاب والجبال، وبين الغابات ووسط قرى وبلدات تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات، ونجد طبعاً أن هذا القصر لهذا المسؤول وهذه الفيلا لفلان من الناس، وقد عبّدت الطرق إلى هذه الفيلات مع كل ما تحتاجه من صرف صحي ومياه وكهرباء في حين تفتقر عشرات القرى إلى أبسط احتياجات الإنسان، مع بطالة وصلت في محافظتي طرطوس واللاذقية إلى أكثر من 400 ألف عاطل عن العمل. 

مناطق أخرى

ونترك المنطقة الساحلية ونتوجه شرقاً عبر الطريق الجبلي الذي يصل اللاذقية بحماة، ونجد القصور الشامخة وبيوت الصفيح، ومن حماة باتجاه السلمية- الرقة- دير الزور- الحسكة.

أحياء بكاملها مخالفات في كل هذه المدن والبلدات، وعشرات الآلاف من العمال كانوا يعملون في لبنان وليبيا يواجهون البطالة والفقر المدقع ، ولكن بعد أن جرى ما جرى بين الأشقاء رجعوا إلى سورية لتنضم هذه الألوف المؤلفة إلى جيوش العاطلين عن العمل.

ترك الفلاح الأرض قسراً، وترك الحرفي مشغله، وترك العاطل عن العمل قريته وزحفت هذه الجموع إلى العاصمة والتحقت هذه الجموع الغفيرة بالسكن العشوائي وتحت الجسور واقتصاد الظل. 

المافيا الجديدة

مع هذا الزحف تشكلت مافيا عقارية من المتنفذين والمسؤولين في الدولة، استولت على أراض  واسعة في العاصمة وريفها، هي أملاك دولة وبعضها مصادر منذ عام 1964، وبدأت هذه المافيا تبيع الأسهم والأمتار، بدأ البيع والبناء، وتشكلت مدن وقرى وأحياء، وطوقت الشوارع العاصمة وزنرتها بسياج عجائبي، وهنا نسأل: أين كانت البلديات ومجالس المدن والبلدات والحكومات المتعاقبة؟ لن يأتينا جواب؛ لأن أكثر المسؤولين في هذه المؤسسات كانوا جزءاً من الفساد. 

الـ86

أبرز المناطق العشوائية أو المخالفات يقطنها أكثر من 600 ألف مواطن وهي أملاك دولة وبعضها مستملك لوزارة الدفاع، أنشئت عام 1980، وقد بدأ السكن في هذه المنطقة من قبل ذوي الدخل المحدود جداً، وعندما كان البيت في المناطق النظامية بـ100 ألف ليرة سورية كان البيت في هذه المنطقة بـ40 ألف ليرة سورية، وعندما وصل إلى 300 ألف ليرة كان المواطن يسكن هنا بـ100 ألف، وتوسعت هذه المنطقة وكبرت وارتفع سعر الأرض مئات المرات وأصبحت الـ86 تضم أبنية تصل طوابقها إلى 11 طابقاً، وسعر الشقة يصل إلى 12 مليون ليرة!.

مضاربات.. مضاربات

سنوات طويلة ومضاربات تتم بالأراضي وسوق سوداء بمواد البناء وبيع وشراء واستيلاء على بيوت وعقارات، وتجار وتعهدات وسمسرات.. ومخططات تنظيمية على الورق، وخطط تنموية اقتصادية واجتماعية ولكن دون إجراء فاعل.

عندما صدر القانون الخاص بمعالجة المخالفات السكنية، لم تتذكر الجهات المسؤولة عن المخالفات والسكن العشوائي، وتصل نسبته في سورية إلى 60%، لم تتذكر سوى الـ86، فاتخذت هذه الجهات إجراءً هائلاً وهو: وضع دورية دائمة من الشرطة العسكرية والأمن على مداخل الـ86 لمنع البناء العشوائي ولقمع المخالفات، ومنع إدخال مواد البناء، وفي هذه الأجواء زاد الفساد فساداً.. حيث أقيمت منذ اتخاذ هذا الإجراء مئات الأبنية والطوابق المخالفة لأن فساداً من نوع آخر قد بدأ، فسيارة الرمل التي كانت تباع بـ3 آلاف ليرة، أصبحت تباع بعد وضع الحواجز بـ10 آلاف ليرة، وقس على ذلك بقية المواد. 

أنت في 86

لا تجد ليلاً سوى مطاردات تلاحق سيارات محملة بمواد البناء، ولكن تتم التسوية والمصالحة وتدخل الـ86 في شارع رئيسي لا يتجاوز عرضه الـ3 أمتار يخترق المنطقة بكاملها وتصاب بالرعب أمام أسلاك كهربائية تغطي الشارع وتحجب السماء متشاكبة، ويكاد لا يمر يوم واحد دون وفيات بسبب الكهرباء والاستجرار غير النظامي، ولا يمر يوم دون تهدم بيت على ساكنيه، وتقف بسيارتك في الشارع الرئيسي الضيق أكثر من ساعة لشدة الازدحام قبل أن تصل إلى نهايته. شارع غير معبد وصرف صحي عشوائي وشوارع عرضها ربع متر، وبعض السكان يتسلقون مئة درجة كي يصلوا إلى بيوتهم، وفي الـ86 مدرسة ابتدائية واحدة افتتحت منذ عامين، ومستوصف واحد ومخبز واحد.. وقد انتشرت في المنطقة أمراض عديدة، من ربو تحسسي، ولاشمانيا، وغيرهما، وتفاجأ عندما يقول لك أحد السماسرة إن سعر المتر وصل إلى 40 ألف ليرة سورية. 

المحصلة

الـ86 نموذج لمناطق المخالفات والسكن العشوائي، وإذا كانت لا توجد في سورية سياسة وطنية بعيدة المدى لسوق العمل أو للتنمية، فكيف سنجد سياسات في قضايا أخرى أكثر أو أقل أهمية؟!

الفقر ليس مشكلة اقتصادية بحتة، إنه مشكلة سياسية، ولابد من إعادة النظر في وضع الإنسان واحترام إنسانيته وحقه في السكن الإنساني كقضية أساسية في تحقيق توازن اجتماعي يكفل تحقيق التنمية المطلوبة للنهوض باقتصاد البلاد وبمعيشة سكانها.