عقود الإيجار.. ابتزاز للمواطنين واحتيال على الدولة
الأساس الاقتصادي لحل مشكلة السكن عن طريق تمليك الفئات الصغيرة والشعبية لدور السكن.. هو الاقتصاد المنزلي والحرفي السائد في الستينيات من القرن الماضي، فعندئذ كان الإنتاج الرأسمالي الكبير في بدايته.
وطدت الحركة التصحيحية حكم الفئات الوسطى والشعبية، التي حلت مشكلة السكن، إما بواسطة الجمعيات التعاونية السكنية أو عبر القروض من المصرف العقاري والمصارف الأخرى لذوي الدخل المحدود، وبالفعل أصبح غالبية الشعب السوري في الريف والمدينة يملكون منازل ومحلات صغيرة ينتجون فيها حاجات الاستهلاك: الألبسة والأحذية... وفي الريف اللحوم.. فالاقتصاد المنزلي والحرفي يتطلب استقرار المكان قبل كل شيء.
استمرت هذه الحال حتى الأزمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد السوري في الثمانينيات تحت تأثير التضخم الذي أصاب الليرة السورية وتدهور القيمة الفعلية للأجور، إذ انتشر شكل جديد لحل مشكلة السكن هو أحياء المخالفات التي حاصرت المدن السورية الرئيسة.
مضاربة قوى الفساد في التسعينيات بمواد البناء وخاصة الأسمنت، وبالمنازل السكنية، رفعت أسعارها لدرجة لم يعد قرض المصرف العقاري قادراً على شراء منزل. حتى الفئات الوسطى فقدت إمكانية شراء منازل لأبنائها، لذلك عادت الطرق الرأسمالية لحل مشكلة السكن: الرهن والإيجار. يشتري الرأسمالي الطفيلي عشرات الشقق السكنية ويعيش على ريعها، ويهرب من مشاكل الصناعة الفنية والتسويقية أو المطالب العمالية. الدولة الأقدر على إقامة معامل الصناعة الآلية الكبيرة التي تحل محل الاقتصاد المنزلي والحرفي.
عدم إنشاء معامل أسمنت جديدة، وإيقاف شركات الإنشاء الحكومية عن العمل عوضاً عن توجيهها نحو البناء السكني، أدى لاستفحال أزمة السكن، إذا أضفنا جامعي الأموال، وتحرير التجارة التي أغرقت السوق المحلية بالبضائع المستوردة، كل ذلك أنهك الاقتصاد المنزلي والحرفي. إن تدمير الإنتاج المنزلي والحرفي، مع نزعة ريعية تابعة لرأسمالية البلدان النامية سيؤديان إلى انهيار الاقتصاد الوطني وبطالة غير مسبوقة. هنا مفتاح انهيار ممانعة سورية للمشاريع الشرق أوسطية.
مضاربة البرجوازية الطفيلية بالأراضي والشقق السكنية الفارهة، رفع أسعار شقق جمعيات الخمس نجوم بحيث لم يعد باستطاعة المشتركين بالجمعيات السكنية دفع الأقساط، فاضطروا لبيع منازلهم للسماسرة مقابل ربح وهمي، فتمركزت بيوت الجمعيات السكنية الفاخرة بأيدي كبار الطفيليين وشركائهم البيروقراطيين، وبقيت ألوف الشقق السكنية فارغة لسنوات عديدة. السياحة هي الحل! هذا آخر ما تفتق عنه ذهن اقتصاديينا العباقرة، تحويل سورية إلى كازينو لجذب أثرياء الخليج لاستئجار الشقق الفارغة. بالتأكيد يزداد ربح الفاسدين إذا تحولوا إلى قوادين.
ابتدع السماسرة أشكالاً جديدة للإيجار منها الإيجار السياحي وبالإعارة. تخضع العلاقة بين المالك والمستأجر لقانون العرض والطلب، لكن كيف طبقت هذه القوانين على الأرض؟! كي يبتز الملاكون المستأجرين أرغموا على توقيع عقود إيجار سياحية، مدتها تبدأ من شهر، وأقصاها سنة، إن كان للشقق السكنية أو للمحلات التجارية، وبعد انقضاء المدة يجبر المستأجر على دفع الزيادة على الأجرة التي يطلبها المالك، أو يلقي أثاثه المنزلي في الشارع، وبالنسبة للمحلات التجارية يخسر المستأجر الديكور. الانتقال من شقة إلى أخرى يعني اهتلاك الأثاث، وهذا الأمر ينعكس مباشرة على ذوي الدخل المحدود لدرجة لم يعد باستطاعة الشباب تجديد المفروشات، لذلك يطالب الجمهور أن يكون عقد الإيجار لمدة خمس سنوات، وبذلك نحمي المستأجر نسبياً .
إذا استمر ارتفاع إيجار دور السكن، بحيث لم يعد راتب عامل الدولة يكفي لاستئجار بيت بائس، فسنصل حتماً إلى السكن في المقابر كما هو الحال في القاهرة أو في أحياء الصفيح، وكما هو الحال في الدار البيضاء.. إننا نحذر أولي الأمر إذا بقيت الأجور على حالها واستمرت أزمة السكن، فإن الأوبئة والأمراض السارية ستعود لتجتاح أحياءنا الشعبية المزدحمة كالكوليرا التي نسيها شعبنا، أم أن هذا هو خيار الفريق الاقتصادي لتخفيض عدد السكان؟ لكن عندئذ لن ينجو سارقو قوت الشعب دون عقاب، وسينكل بهم عزرائيل بلا رحمة كما ينكلون بالكادحين فالأوبئة لا تميز بين الأثرياء والفقراء .
للتحايل على القانون من أجل التهرب الضريبي، يسجل عقد الإيجار في البلديات بقيمة خمسمئة ليرة في الشهر، فهل يعقل أن تكون أجرة منزل في الشهر، في الوقت الحالي، خمسمئة ليرة سورية فقط؟؟ وكيف تقبل البلديات هذه الأرقام؟!
إعفاءات ضريبية للمستثمرين، تهرب ضريبي يقدر بمئات المليارات، شبكات فساد منظم تنهب الاقتصاد الوطني، في النهاية إفلاس الخزينة، وبعد ذلك يزعق الفريق الاقتصادي بأن الخزينة لم تعد تحتمل دعم المواد التموينية، ويطالب بإلغائها، صدق المثل الشعبي (ألف مبخر ما لحق....)!
والآن يجري الهجوم على المكاسب التي حققتها الجماهير الشعبية في ظل ثورة آذار، الإصلاح الزراعي والقطاع العام، إذا كان الفريق الاقتصادي ومن وراءه يتصورون أن الكادحين هم الطرف الأضعف في المعادلة وحلول المشاكل الاقتصادية يجب أن تكون على حسابهم، فإنهم في ضلال مبين، فليتعظوا من انتفاضة الشعب المصري العظيم.
فليرحل الفريق الاقتصادي بإرادته غير مأسوف عليه، وإلا سيطرده شعبنا بالبيض الفاسد والطماطم المعفوسة.
في ظل تقسيم العمل الدولي الجائر، من الحماقة السعي إلى حل مشكلة السكن أو أية مشكلة أخرى يعاني منها الكادحون من خلال أسلوب الإنتاج الرأسمالي، فالجهود ستذهب أدراج الرياح، وكمن ينفخ في الطاحون.