سفينة «فينيقيا».. الحضارة وُلدت هنا!
عندما تقف على سطح السفينة «فينيقيا»، وتلامس قدماك السطح الخشبي المصنوع من الصنوبر الأحمر، وتسمع بأذنيك ذلك الصرير المتناغم ما بين ميلانها وحركة الأمواج.. وعندما تجوب بناظرك إلى بقايا ذلك السور القائم على الصخور الرملية الضخمة تشعر للوهلة الأولى أنك تعيش حلماً فينيقياً عمره 2500 سنة قبل الميلاد.. ذلك السور الذي كان يمتد من شمال الجزيرة إلى غربها إلى جنوبها مزنراً محيطها والبيوت التي حفرت في الصخر معبرة عن الحياة الأولى على هذه الجزيرة، ولولا خطيئة العثمانيين منذ أكثر من 400 سنة بهدم قسم من السور ونشر صخوره وترميم القلعة وبناء مركز للبريد وبيوت عادية، وما لحقها من إهمال أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية، وإهمال الحكومات المتعاقبة، لكانت عجائب الدنيا ثمانية بإضافة «سور أرواد»..
قصة السفينة..
في غرب المتوسط، بالقرب من مرسيليا، اكتشفت بعثة بريطانية بحرية بقايا سفينة فينيقية غرقت منذ أكثر من 2500 سنة قبل الميلاد، وسرعان ما ولدت فكرة إنشاء سفينة مطابقة لها تماماً.. وضع المخطط والتصور النهائي لها خبراء يونانيون واستراليون، وتبنى الإنشاء مهندسان بريطاني واسترالي، صاحب الفكرة مغامر بحري اسمه (فيليب بييل) بالتعاون مع الجمعية البريطانية التابعة للمتحف البحري البريطاني.
ظل أصحاب الفكرة طوال عامين يجولون موانئ حوض البحر الأبيض المتوسط، يحاولون إيجاد من يستطيع أن يبني هذه السفينة بالمواصفات الخاصة بها، بحيث تكون مصنوعة من خشب الصنوبر الأحمر (الحلبي) والجوز والبلوط ودون مسامير معدنية، لكنهم لم يصلوا إلى نتيجة، فذهبوا إلى أرواد دون حماس، ليتفاجؤوا جميعاً بأن هذه الجزيرة الصغيرة قد تجعل من حلمهم حقيقة.
المهندس البريطاني قال: «كنت أسمع بأن هناك جزيرة تسمى أرواد، ولكنني فوجئت بأنها تصنع سفناً».. وبعد ثلاث جولات دون نتيجة، قادهم أحد المواطنين إلى ورشة الشاب (خالد حمود) الذي لم يبلغ الثلاثين من العمر، ليريهم سفينة قديمة اسمها (الفايكينغ) يصنعها لمسلسل سقف العالم.
وعندما شاهد الشاب خالد مخطط السفينة، وضعهم مباشرة في صورة الشكل النهائي لها مع تعديل في مؤخرة السفينة كي لا تضغط المؤخرة على المقدمة، ففوجئوا بما سمعوه، ووقعوا عقداً معه، على أن يتم إنجاز السفينة خلال (18) شهراً.
راقب المهندس الاسترالي (ناك) نشاط واندفاع وسرعة الشاب خالد بالعمل، لكنه تخوف من يفاعته وقال للمغامر (فيليب): «أنا لا أعطيه نسبة نجاح أكثر من 40 %». بينما (فيليب) كان أكثر تفاؤلاً، وقال: «أنا أعطيه 60 % نجاح».. وعندما قدم مدير المتحف البريطاني صُعق من جودة العمل، وقال: «أنا أعطيه نسبة نجاح 100 %، ويجب ألا تبنى سفينة خشبية قديمة إلا في أرواد، وهذا يعني أن السفينة الفينيقية الغارقة صنعت هنا في أرواد!!»..
سألت قاسيون المعلم خالد: «من أين تعلمت هذه الحرفة؟ قال: من والدي. قلت: ومن أين تعلمها والدك؟ قال: من والده. قلت: ومن أين تعلمها جدك: ضحك وقال لا أعرف، فقلت له: وما المانع أن يكون أحد أجدادك هو من صنع السفينة الفينيقية، وانتقلت إليكم هذه الحرفة بالتوارث؟ قال: (الله عليم). وعندما تحدثنا عن خط سير السفينة والدول التي ستمر بها واستقرارها في بريطانيا وماذا يعني ذلك لسورية؟ قال لي: إن المتحف البريطاني البحري قام باحتفال ضخم، وغطته كل وسائل الإعلام البريطانية، وعندما عاد بعض أهالي أرواد الذين يعملون أو يدرسون في بريطانيا، توجهوا مباشرة إلي وقالوا لي: لا نعرف كيف نشكرك لأنك عملت لنا قيمة في بريطانيا، فعندما عرفوا أننا من جزيرة أرواد أصبحوا ينظرون إلينا بأننا ذوو شأن!!
مواصفات السفينة
السفينة مصنوعة من خشب الصنوبر الأحمر والجوز والبلوط، دون أية مسامير لارتباط ألواحها ببعضها، إلا مسامير خشبية وهي حصراً من خشب الزيتون.
طول السفينة 21م، وعرضها 5.5م، وارتفاعها على سطح الماء 5.2م. طول الصارية 16م، وعليها شراع من قماش (القنب).
وضعت داخل السفينة ألواح معدنية بوزن 20 طناً كي تحافظ على توازنها أثناء هبوب الرياح على الشراع .
وفيها عشرة مجاديف يدوية على كل جانب من السفينة وطول كل مجداف 5م . ودفتي توجيه يدوية طول كل واحدة 6م. ووضع في مقدمة السفينة مجسم لرأس حصان محفور من الخشب.
سيبحر مع السفينة طاقم مكون من 20 شخصاً باختصاصات متنوعة، وأضيف للسفينة كبين لحمايتهم ولخصوصية حياتهم، وحماية الأجهزة التي يحملونها، كما زودت بمروحة هوائية وألواح طاقة شمسية لتوليد الكهرباء ولتعبئة المدخرات ولتشغيل الأجهزة المرافقة لهم .
السفينة أبحرت من أرواد مع صدور العدد الماضي إلى قناة السويس فالبحر الأحمر – مضيق باب المندب – المحيط الهندي –رأس الرجاء الصالح – المحيط الأطلسي –مضيق جبل طارق ثم ستعود إلى أرواد قاطعة مسافة 17 ألف ميل خلال عشرة أشهر، بعدها ستغادر أرواد من جديد لتستقر في المتحف البحري البريطاني حيث ستشارك كبطل أساسي في معرض الحضارة الفينيقية الذي يقام بين عامي 2009-2010 .
صُنع في سورية
ستجوب «فينيقيا» سواحل العالم متباهية وكأنها تصرخ من بعيد: «أنا فينيقيا … لقد عدت… بعثت من جديد على يد أحد أحفادي»، ملوحة بشراعها لمن يعرف حضارتها التي كانت تجوب العالم.. وكما تولد الحضارة في بلد وتنتقل بأشكال مجسمة أو أفكار إلى بلدان العالم معبرة عنها، ستقف فينيقيا في نهاية الرحلة شامخة في المتحف البحري البريطاني في لندن، وسيؤمها الزوار المتعطشون للمعرفة من كل أنحاء العالم.. وكأنني أسمعها تقول: «هييه.. أنا هنا.. أنا فينيقيا.. نحن الفينيقيين أول من أسس حضارة غير ملوثة بالدماء... ونحن الفينيقيين أول من نشر في العالم نظاماً خاصاً للكتابة بالحروف الهجائية المجردة، وعددها اثنان وعشرون، وبانتقالها إلى اليونان أصبحت هذه الحروف أساساً لكل الحروف الهجائية التي يكتب بها اليوم أبناء أوربا وآسيا وأمريكا وبعض أفريقيا.. إنه أعظم ما اخترعته البشرية على الإطلاق.. وعندما تغفو في المتحف.. سيكتب على صدرها (صنع في سورية)..