الخطر المتدثر بثوب الحضارة يجثم فوق رؤوس الناس.. أبراج ومحطات تقوية الهاتف الخليوي وآثارها الصحية الخطيرة
يارا لم تعد جدائلها شُقر، ولم يعد يغفو على زندها «خيّا» الصغير، يارا فارقت هذه الحياة وهي في عمر الورود بعد صراع مرير مع السرطان، ولم تتوقف المأساة بموتها، بل استمرت وانتشرت حتى غدت شبح رعب يقلق راحة الكثيرين. حيث ما من خدمة جديدة تقدَّم للإنسانية باسم الحضارة، وما من اختراع علمي ينتشر فيفرض دخوله إلى كل بيت في سورية، ويصبح من الاحتياجات الأساسية لأي مواطن، إلا ويسارع المتنفذون أو المحظيون أو التجار لتجييره لخدمة مصالحهم الخاصة، ويتهافتون ويتنافسون لنيل الامتيازات الحصرية للتحكم به خدمة لطمعهم وجشعهم، بهدف تكديس المزيد من الأرباح الفاحشة في جيوبهم، حتى ولو كان ذلك على حساب حياة باقي المواطنين وصحتهم وأمنهم وسلامتهم.
فمنذ عقد من الزمان دخلت خدمة الاتصال بالهاتف المحمول (الخليوي) إلى البلاد، وسارع أصحاب الامتيازات للتفرد بجني الأرباح الخيالية، حيث وصل سعر الخط في بداية إطلاق خدمة الهاتف الجوال إلى 120000 ل.س، ثم بعد فترة بدأ بالانخفاض مع اتساع شريحة المستفيدين من هذه الخدمة، حتى وصلت تكلفة الخط إلى حدود متدنية، وإن بقيت أجدى من كل مناطق الجوار، ولكن زاد عدد المشتركين بالخدمة عن عشرة ملايين مواطن.
ومع هذا التوسع أخذت أبراج تقوية الإرسال لشبكات الاتصال تغطي أسطح الكثير من المنازل والمباني السكنية والمدارس بجميع مستوياتها، وحتى المديريات والمؤسسات الحكومية، حيث استفاد أصحاب الامتيازات من مجانية استعمال الأماكن العامة خدمة لأرباحهم ومصالحهم، أما في الأحياء السكنية والمنازل والمباني السكنية فقد كانوا مضطرين لتقديم الإغراءات المادية لأصحاب العقارات مستغلين الحاجات المادية والضرورية للمواطنين وافتقارهم إلى البحبوحة المادية، بعد أن وصل السواد الأعظم من شعبنا إلى مستويات خطيرة من الفاقة والعوز، بسبب السياسات الحكومية التي أفقرت المواطنين وجوَّعتهم وأثقلت كواهلهم بالفَلَتان الجنوني لأسعار المواد المعيشية والتموينية، وقد استغل مشغلو خدمة الخليوي هذه الحالة فقدموا الكثير من الإغراءات المادية، وقَبِلها بعض المواطنين ووضعوا أبراج ومحطات تقوية الإشارة على أسطح منازلهم، رغم الخطر الشديد الذي تسببه إشعاعاتها الكهرومغناطيسية على صحة المواطنين القريبين منها، ولكن المواطنين قبلوها على مضض تحت شعار: «عيِّشْني اليوم وموِّتْني بكرة».
تسهيلات بلا حدود
مع بداية دخول خدمة الهاتف الجوال إلى سورية واحتكار امتيازات التشغيل من القطاع الخاص، تم تقديم تسهيلات كبيرة للشركات المشغلة لهذه الخدمة من رئاسة مجلس الوزراء ووزارة الاتصالات وغيرها من الجهات المعنية، وكثرت الشكاوى الواردة إلى وزارة الإدارة المحلية حول تركيب أبراج التقوية بالقرب من المدارس والمشافي والحدائق العامة، مطالبة بضرورة نقل هذه الأبراج بعيداً عن أماكن تجمع الأطفال والمرضى، والتقيد بإقامتها ضمن الشروط الواردة في كتاب هيئة الطاقة الذرية رقم 339/2005/د/ق.و.أ تاريخ 17/1/2005، وكتاب مركز الدراسات والبحوث العلمية رقم /6332/ تاريخ 22/3/2005 اللذين أوضحا بشكل قاطع مخاطر وجود هذه المحطات بالقرب من التجمعات السكانية. فقد دلت الأبحاث التي أجريت على نتائج التعرض للإشعاعات الكهرومغناطيسية إلى حدوث الكثير من حالات الإجهاض واضطرابات القلب، واضطرابات النوم والتعب المزمن، والتسبب بمرض سرطان الدم الأبيض (اللوكيميا) بنسب كبيرة، وكذلك سرطان الغدد الليمفاوية وسرطان المخ، كما تبين أن هناك علاقة سببية بين التعرض للموجات الصادرة عن أبراج ومحطات تقوية الإرسال التلفزيوني والإذاعي (وهي موجات ميكروويف) وارتفاع معدلات حدوث سرطانات مختلفة بين السكان القاطنين في محيط هذه الأبراج.
أضرار صحية واجتماعية
على أرض الواقع
إن الحقيقة تفرض نفسها في نهاية المطاف، والواقع الفعلي الملموس يعبر أصدق تعبير عما تحمله هذه المحطات من مخاطر وأضرار صحية وخسائر بشرية دفعت حياتها ثمناً لجشع البعض واستهتار البعض الآخر. ففي مبنى سكني واحد ساحة شمدين بحي ركن الدين أقيم عليه برج تقوية إشارة للهاتف المحمول، واجهنا 13 حالة من أمراض السرطان المختلفة، وكان لـ«قاسيون» لقاءات محزنة، مع مواطنين كانوا ضحايا لهذه المحطات والأبراج، وشرحوا لنا مأساتهم وخسارتهم على الشكل التالي:
ـ في الطابق الأول التقينا شقيقة المتوفى عبد الكريم الشرقاوي التي قالت بحسرة: «أخي توفي منذ سنة ونصف بسرطان الرئة، وهناك أكثر من عشر حالات في بنائنا هذا وحده، ونحن الآن نعاني من حالة رعب دائمة خوفاً من المرض. وقد عرضنا المنزل للبيع، وأعجب الشاري به ولكن حين رأى برج التقوية رفض الاقتراب من المبنى مرة أخرى».
ـ في القبو فني، والد يارا الصياح روى لنا حكاية صراع مرير مع سرطان في العقد الليمفاوية، تحول إلى لوكيميا (سرطان الدم الأبيض)، ورغم الألم والمعاناة ظلت حتى آخر لحظات حياتها مبعث صبر وطائر أحلام يشيع الأمل بين من شاركوها المرض، ولكن يد المنون كانت أقسى من كل الأحلام والآمال.
وكذلك واجهتنا في المبنى نفسه الحالات التالية:
ـ في القبو توفيت سلمى الرفاعي بسرطان المخ. كما توفي علي عكاش بسرطان الرئة الذي انتهى بجلطة دماغية. ومازال هشام قضماني يعاني من جلطة دماغية.
ـ في القبو فني، أم نوال النجار أصيبت بجلطة دماغية وقلبية مازالت تعاني منها حتى الآن.
ـ في الطابق الأول توفي عبد الكريم الشرقاوي بسرطان الرئة.
ـ في الطابق الثاني أصيب الشاب محمد الطحان بسرطان البروستات ومن الغريب إصابته بهذا المرض بسن مبكرة، 22 سنة. كما يعاني أبو فؤاد المعقدة من سرطان البروستات، والدكتور يوسف اليوسف يعاني من الإصابة نفسها، ثلاث إصابات في الطابق نفسه.
ـ في الطابق الثالث أصيبت أم فواز الرجلة بسرطان الثدي، فأخذها زوجها أبو فواز بعد أن أقسمت أنها لن تقرب من بيتها وهرب بها مذعوراً من الخطر في ليلة لا ينيرها قمر، لأن جارتها في الشقة المقابلة فاديا خباز توفيت بسرطان الثدي أيضاً، بعد أن توفي زوجها عرفان خباز بجلطة دماغية وقلبية.
ـ في الطابق الرابع توفيت أم نضال بسرطان الثدي الذي سرعان ما انتقل إلى الغدد الليمفاوية والدماغ.
شكا لنا سكان المبنى إضافةً إلى مخاطر البرج، مخاطر مدخنة لمطعم شاورما غير مطابقة للمواصفات الصحية، ودخانها يسبب أمراض الجهاز التنفسي وسرطانات الرئة. وقد تم عرض الكثير من بيوت المبنى للبيع وغادرها أصحابها هرباً من الخطر. وقد تساءلوا بتعجب: لقد قامت المحافظة بإزالة هوائيات الستلايت مع أنها تستقبل ولا ترسل، وتأثيرها الصحي معدوم، فلماذا لا تجرؤ على نزع الهوائي الذي يشكل خطراً حقيقياً؟!!
الضرر وعدمه في جدال وسجال
شركات الهاتف الخليوي تدَّعي أن هذه الأبراج والمحطات ليس لها تأثير سيىء على صحة المواطنين، بحجة أنه لم يثبت بعد خطرها على أرض الواقع، بينما الكثير من المواطنين يعبرون عن اعتراضهم الشديد على وضع هذه الأبراج فوق أسطح المنازل والمباني السكنية والمدارس وبالقرب من المشافي، وبالرغم من أن الجدال نظرياً لم يحسم بعد، إلا أن تقريراً صادراً عن منظمة الصحة العالمية يبين أن رئيس برنامج الحماية من الأشعة الكهرومغناطيسية طالب شركات الهاتف الخليوي حول العالم بوضع حد لمُعامل الأمان ضد الإشعاع، واتباع الشروط التي وضعتها المراكز البحثية والمختصون، عند تركيب محطات الهاتف الخليوي، ومن هذه الشروط:
1ـ أن يكون ارتفاع المبنى المراد إقامة المحطة فوق سطحه في حدود 15 ـ 50 متراً.
2ـ أن يكون ارتفاع الهوائي أعلى من المباني المجاورة بما يزيد عن 10 أمتار.
3ـ أن يكون سطح المبنى الذي يتم تركيب الهوائي فوقه من الخرسانة المسلحة.
4ـ ألا تقل المسافة بين الهوائي والجسم البشري عن 12 متراً.
5ـ ألا يسمح بتركيب الهوائي فوق أسطح المباني المستقلة بالكامل كالمستشفيات والمدارس.
6ـ يجب عدم توجيه الهوائيات في اتجاه أبنية مدارس الأطفال.
من هنا نرى أنه لو لم تكن هناك خطورة حقيقية على صحة المواطنين لما تم التشديد بعد السماح بتركيب الهوائي فوق أسطح المدارس والمستشفيات، ويجب التقيد بارتفاعات محددة، علماً أن الارتفاع الإجمالي للمباني التي يتم تركيب الهوائي فوقها، إن كانت سكنية أو مدارس، لا يتجاوز الـ15 متراً (4 طوابق كل طابق 3.25 متراً) أي أن تأثير الإشعاع يصل حتى أبعد من الطابق الأرضي في أي مبنى يتم تركيب الهوائي عليه.
مخاطر وأضرار الأشعة الكهرومغناطيسية
إن الطاقة الإشعاعية الصادرة عن محطات تقوية الإرسال والتي يمتصها الجسم لها طبيعة تراكمية مع مرور الوقت واستمرار التعرض للموجات الإشعاعية، وهذا يشكل تهديداًً مستقبلياً خطيراً، حيث أن الكم الضئيل من الطاقة الممتصة يؤدي إلى تضاعفها داخل الجسم مع مرور الوقت وهذا التراكم يسبب تأثيرات ضارة. وفي تقرير نشر على المواقع الالكترونية أكدت أبحاث معهد الأورام في بريطانيا العلاقة المباشرة بين سرطان الدم والمخ والغدد الليمفاوية، وأجهزة الاستقبال التي تبنيها شركات الاتصالات في الأحياء السكنية، حيث دلت هذه الأبحاث على ضرر حقيقي ناتج عن تلك الأبراج بانبعاث إشعاعات كهرومغناطيسية يزيد تأثيرها في محيط دائرة قطرها 400 متر، مائة ضعف مقارنة بخارج هذه الدائرة، وقد جرت فحوصات طبية من قبل هيئات صحة عالمية نشرت نتائجها على شبكات الإنترنت، لعدد من الناس مضى على سكنهم بجوار محطات برج التقوية عشر سنوات، ولم يكن بجوارهم أية عوامل إشعاعية أخرى، أي لا يوجد في محيط سكنهم سوى برج تقوية الاتصال فقط، فتبين أن الناس الذين يسكنون في محيط 400 متر حول محطات تقوية الإرسال، معرضين لحالات سرطانية أكثر بثلاث مرات من الناس الذين يسكنون أبعد من هذا المحيط، وحتى هؤلاء الناس الذين يبعد سكنهم عن محطة التقوية قد بدؤوا يعانون من حالات مرضية أو عصبية منذ ثماني سنوات أي بعد تركيب المحطة بسنتين.
وجاء في التقرير العلمي لهذه الأبحاث أن سرطانات الثدي هي الأكثر شيوعاً في عمر 50 سنة، وهذا العمر ينخفض عن المعدل الطبيعي لعمر الإصابة بهذا المرض وهو 69 سنة، وكذلك تزايدت معدلات الإصابة بسرطانات البروستات والبنكرياس والأمعاء والرئة والأورام الجلدية، والأخطر من ذلك سرطان الدم (اللوكيميا)، وكان الأطفال أكثر تأثراً من جراء التعرض للإشعاعات الناجمة من تلك الأبراج، وتأخذ الإصابات أشكالاً مرضية متعددة كالطفح الجلدي وإصابات الكلية وتفاقم الأمراض النفسية والعصبية، مثل قلة التركيز وضبابية التفكير واضطرابات النوم، ثم تطورت هذه الأعراض إلى نتائج صحية أسوأ من ذلك بكثير.
يجب وضع حد للمأساة
إن وجود برج أو محطة تقوية للهاتف الخلوي بالقرب من المنازل والأبنية السكنية أمر خطير يسبب الضرر الصحي، وقد أثبتت العديد من الدراسات والأبحاث والمنظمات الصحية العالمية أثرها السيئ، لأنها تسبب تلوثاً كهرومغناطيسياً يؤدي للإصابة بالعديد من الأمراض الخطيرة الجسدية والنفسية، وقد تظهر على مراحل أو على المدى الطويل. لذلك يجب إعادة النظر في توضع أبراج ومحطات التقوية المتوضعة جانب المدارس والمشافي والحدائق العامة والأبنية السكنية والإدارات والمؤسسات التابعة للقطاع العام. وعلى الحكومة أن تتبنى معايير الأمان الدولية وإبعاد هذه المحطات عن التجمعات السكانية لحماية المواطنين من التعرض للإشعاعات الكهرومغناطيسية المسبب الأخطر للأمراض السرطانية.