من صفحات النِّضال على طريق الجَّلاء..

لقد أثبتت المقاومة كونها رد فعل طبيعياً على ظلم اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، أو كمواجهة ضد محتل أو معتد، أنها وبالدرجة الأولى، فعل شعبي أساساً، ينشأ ويتطور ويأخذ أشكالاً مختلفة تبعاً لظروف الزمان والمكان وخصائص الحالة، فقد يبدأ باستياء وتمرد ويتحول إلى انتفاضة أو ثورة، أو يأخذ أشكالا أخرى من الممانعة والرفض تختلف في شكلها وأسلوبها وطريقتها، لكنها في كل الأحوال فعل مقاومة ايجابي قابل  للتطور،  فعل شعبي ينبثق من الجماهير المتضررة، فهي التي تنشا هذا الفعل وتمارسه وتقوم على تطويره حسب الضرورات والممكنات والظروف .

والثورة السورية الكبرى أحد تلك الأمثلة البارزة، فهي في أسلوبها وطريقتها وشكلها مثل  قد يكون فريدا في التاريخ، كونها عصيان وانتفاضة وتمرد وثورة، قياداتها الأولى وجماهيرها من الفلاحون المتوسطين والفقراء، انضم إليهم مجموعة من رجالات السياسة والمثقفين، واستطاعت أن تتحول إلى ثورة وطنية مسلحة هدفها تحرير الوطن، وأثبتت أيضا أن للمقاومة الشعبية أشكالا وأساليب متعددة، فهي تستطيع أن تواجه جيوشا نظامية مدربة ومجهزة بأحدث الوسائل القتالية، وتستطيع أيضا أن تبدل وتغير أسلوبها وطرقها وفقا لتطور الأحداث.

ومن المآثر التي تجلت في هذه الثورة الشعبية الوطنية، تلك المعارك والبطولات التي حققها الثوار(مرقعي العبي) أولئك الفلاحين الفقراء والبسطاء الذين كانوا في معظمهم لا يملكون سلاحا يقاتلون به، أو وسيلة ينتقلون بها، فجل ما كان لديهم بعض البنادق القديمة والسيوف والخناجر والعصي، لكنهم كانوا يملكون الإرادة.. الإرادة التي لا تقهر والعزيمة التي لا تلين.

ففي أولى معارك الثورة السورية الكبرى قضوا على حملة نورمان  في موقعة الكفر، حيث يصفهم هنا سلطان باشا الأطرش (انطلق الثوار صباح 21 تموز 1925 وراء بيارقهم الخفاقة يصحبهم بعض الفرسان من بدو الجبل، ولم يتجاوز عددهم جميعاً خمسمائة مقاتل أكثرهم لا يحمل سلاحاً سوى السيوف والمدى والفؤوس (البلطات) أما البنادق فكان أحدثها من النوع الانكليزي والألماني الطويل والقصير والعثماني بانواعها). (1).

وانتصر الثوار في هذه المعركة انتصارا ساحقاً، ولم ينج من هذه الحملة إلا القليل (لم يرجع من المعركة من الضباط السبعة، والمائة وسبعة وستين رجلاً إلا جنديان برتبة سرجان، وسبعة وأربعون من جنود الفرقة بينهم ثلاثة عشر جريحاً، ومعاون الضابط الخيال الفرنسي جوكاز وسبعة عشر صباحياً منهم ستة جرحى وجندي واحد من الرماة). (2)

وقدم الثوار أربعة وخمسين شهيداً عدا الجرحى من بينهم البطل شهاب غزالة، حامل بيرق ملح، ومصطفى الأطرش شقيق قائد الثورة الأصغر.

وكذلك الأمر في معركة المزرعة الخالدة، تلك الملحمة التي سجلها التاريخ كإحدى المعارك التي هي اقرب إلى الأساطير منها إلى الواقع، إذ كيف أمكن لهؤلاء المجاهدين أن يتصدوا للجيش الفرنسي المتقدم بقيادة الجنرال ميشو لاحتلال السويداء وفك الحصار عن قلعتها، والذي كان يزيد عدد أفراده عن ثلاثة عشر ألفا مجهزين بأحدث أسلحة ذاك الزمان، من رشاشات ومدفعية ومصفحات وطائرات وجنود مدربين، حيث استطاع الثوار في غضون يومين أو أكثر قليلا أن يدحروا الحملة ويردوها على أعقابها، بعد إن كبدوها خسائر فادحة في معارك بطولية ومآثر عظيمة تحتاج لسجلات من ذهب كي تكون نبراسا للأجيال، تذكرهم وتعلمهم كيف تكون البطولة دفاعاً عن الأرض وعن الكرامة، ويكفي ان نذكر ما قاله الدكتور المجاهد عبد الرحمن الشهبندر عندما زار ارض المعركة: (حاولت أن أحصي عدد الجثث الملقاة فيها بالضبط فلم أفلح لسعتها وحسبي أن أقول أني مشيت من عين المزرعة إلى الطريق المعبدة غرباً نحو ساعتين بين الجثث والعتاد الملقى على الأرض). (3)

وقد بلغ عدد الشهداء من الثوار أكثر من ثلاثمائة وخمسين شهيدا ماعدا الجرحى.

وتبدت البطولة أيضا بأنصع صورها في معركة المسيفرة في 17 أيلول، حيث أخذت الوحدات العسكرية الفرنسية تتجمع في البلدة بقيادة الجنرال غاملان لتجعل منها قاعدة عسكرية في هجومها المقبل على مدينة السويداء، وتألفت هذه القوة من

(اللواء الخامس من الفيلق الأجنبي الرابع والكتيبة الثامنة عشرة والكتيبة التاسعة عشرة وكتيبة الرشاشات الخامسة وكوكبة الفرسان الرابعة). (4)

وكانت آراء المجاهدين تدعو إلى ضرورة ملاقاة الحملة ومهاجمتها في معسكرها قبل أن تبدأ هجومها باتجاه السويداء، وقد شعر القائد العام للثورة بخطورة ذلك نظراً لوجود القرية وسط سهل مكشوف في حين تعود الثوار على القتال في الأماكن الوعرة والجبال، وشاركه بعض القادة في هذا الرأي، لكن حماسة المجاهدين وإصرارهم على مواجهة الحملة والقضاء عليها جعل أمر الهجوم محسوماً.

فبعد منتصف الليل بقليل، تقدمت أرتال الثوار تاركة الجبل خلفها متجهة نحو السهول الغربية، وكانت الخطة التي تم اطلاع الجميع عليها وعلى ضرورة التقيد التام  بها، تقضي بان يكون التقدم نحو معسكر الفرنسيين تحت جنح الظلام في تلك الليلة التي غاب قمرها، على الجميع أن يلزم السكون التام أثناء المسير دون أي صوت أو جلبة، حيث تترك المؤونة والخيول في الخلف ،فلا شيء يجب أن يلفت انتباه العدو قبل الوصول إلى مشارف البلدة، حيث كان الفرنسيون قد حفروا الخنادق وأحاطوها بالأسلاك الشائكة، ووزعوا مدرعاتهم ورشاشاتهم في استحكامات حصينة وعلى جميع مداخل القرية، وعند الساعة الثالثة والنصف صباحاً والظلام والهدوء يلفان المكان، بينما الثوار يتقدمون ببطء وحذر، وبعدما اقتربوا من الوصول، انطلقت رصاصة (عميلة) قطعت الصمت وتردد صداها في جنبات السهل الواسع، وسط ذهول وحيرة الثوار الذين توقفوا مستغربين مما جرى، وفجأة ووسط هذا الارتباك الشديد أنارت السهل كله عشرات القنابل المضيئة والتي أحالت الليل نهاراً، وكان الثوار يشاهدون ذلك لأول مرة، وانكشفت أرتالهم المزروعة في السهل كالقطن، وانهالت عليهم القنابل وصليات الرشاشات والرصاص كالمطر، وقبل ان يستدركوا ما حدث كانت جثث الثوار تغطي جنبات السهل الواسع، فقد سقط في لحظات أكثر من مائتي شهيد وعشرات الجرحى، وبدلاً من أن يتراجع الثوار وينسحبوا كما ظن العدو، وكما هو المنطق العسكري، قام الثوار بتجميع قواهم فوراً والهجوم الكاسح مخترقين دفاعات العدو وخنادقه، وهم يتلقون الرصاص بصدورهم، واستمرت المعركة حتى الصباح حيث دخل الثوار القرية واشتبكوا في أزقتها مع جنود العدو بالسلاح الأبيض، واستولوا على كميات كبيرة من الذخيرة والسلاح والخيول، لكن طيران العدو الذي أغار على مشارف القرية ومحيطها، أثر بشكل كبير في ارتفاع أعداد الشهداء والجرحى حيث (أغارت الطائرات من قاعدتي رياق وازرع لنجدة القوات. وأغارت   سبعاُ وعشرين مرة بين الساعتين السابعة والعاشرة وبلغ مجموع ما ألقت من القنابل أربعة ألاف وسبعمائة كيلو غرام وأطلقت خمسة آلاف خرطوشة). (5)

ولهذا اضطر الثوار إلى التراجع دون أن يتمكنوا من إخلاء قتلاهم وجرحاهم، وقد قام الجنود الفرنسيون بالإجهاز على الجرحى وحرق جثث الشهداء جميعاً، وكانت تزيد عن مائتين وثلاثين جثة، فقد بلغت خسائر الثوار ما يزيد عن ثمانمائة قتيل وجريح، وذكرت بعض المصادر أن عدد القتلى في صفوف الجيش الفرنسي زاد عن تسعمائة قتيل. (6)

ومن المآثر الكثيرة التي تروى عن هذه المعركة البطولية، أن بيرق قرية رساس كان يرفعه شاب من آل حمزة، يرافقه في المعركة أخوته الثلاثة ووالده العجوز أيضاً، الذي كان في المؤخرة، يسوق جملاً محملاً بالماء لسقاية الثوار، فاستشهد حامل البيرق الأخ الأكبر في اللحظات الأولى من المعركة، فوثب شقيقه الثاني ورفع البيرق قبل أن يقع على الأرض، وتابع الهجوم وسقط بعد ذلك بقليل شهيداً، فانبرى الشقيق الثالث ليكمل المشوار ويرفع البيرق، لكنه سرعان ما التحق بأخويه شهيداً، فاندفع الأخ الأصغر إلى البيرق ورفعه، فطلب منه الثوار أن يعطي البيرق لغيره فلم يبق من الإخوة الأربعة سواه، لكنه أشهر سيفه باليد الأخرى وتابع القتال، فسقط عند مدخل القرية شهيداً، وعندما تراجع الثوار كان الوالد العجوز بين الجرحى، حيث حاولت زوجته أن تضمد جراحه وهي تنتظر عودة أبنائها الأربعة، وعند المساء علمت باستشهادهم، وصادف وجود المجاهد الدكتور الشهبندر في القرية فاخبره الأهالي بان والد الشهداء الأربعة حاملي البيرق جريح ،فأسرع إلى منزله ليساهم في علاجه ،فلما دخل إلى الحجرة التي يكاد ضوء السراج ينير جزء منها، حتى رأى الزوجة العجوز جالسة وعلى ساعدها رأس زوجها وقد فارق الاثنان الحياة. 

الهوامش:

1- أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام-دار طلاس طبعة ثانية 2008 ص105

2- الكتاب الذهبي لجيوش الشرق ترجمة ادوارد البستاني _ص141

3- مذكرات عبد الرحمن الشهبندر –ص30

4- الكتاب الذهبي-ص148

5- الكتاب الذهبي-ص254

6- مذكرات عبد الرحمن الشهبندر –ص40 

 ■ مراسل قاسيون - السويداء