المرابع الليلية.. هل هناك من يريد تحويل البلاد بأكملها إلى ملهىً ليليّ كبير؟
من يدخل مدينة دمشق من بعض الطرق الدولية أو الفرعية (طريق صيدنايا- التل، طريق المتحلق الشمالي، طريق الغوطة، طريق دمشق - بيروت القديمة)، يصدمه العدد الهائل للملاهي الليلية والكازينوهات التي تنتشر بكثافة كبيرة على جوانب تلك الطرق، وسيُفاجأ بالكم الكبير من السيارات الخاصة والعامة الفارهة، ذات اللوحات السورية والعربية، المتوقفة قبالتها أو في مرائيبها المكشوفة.. وقد يتجرأ ويسأل نفسه: من هم هؤلاء الذين يرتادون هذه الأماكن المنبوذة أخلاقياً وإنسانياً في العرف الاجتماعي السوري؟ ومن أين، وكيف يحصلون على الأموال التي ينفقونها بسخاء هنا؟ ولماذا؟.. ثم، وبدافع الفضول فقط، كم هو عدد المغرمين بهذا النوع من الترفية والتسلية في بلدنا؟ وما هي ميولهم ودوافعهم وثقافتهم وطموحاتهم ومشاريعهم الحياتية واحتياجاتهم الغريزية والنفسية التي يعبرون عنها بهذه الطريقة؟
من هم رواد الملاهي؟
بعد حوارات مطولة مع العديد من العاملين في الملاهي الليلية عن نوعية الأشخاص الذين يؤمونها عادةً، عن مهنهم وصفاتهم وأعمارهم، يمكن الوصول إلى استنتاج أن معظم رواد الملاهي المرموقين هم من التجار، وخاصة تجار سوق الهال، وتجار العقارات والأراضي والنفط، وبعض أصحاب الوكالات الأجنبية، والسماسرة والوسطاء، كما أن هناك عدداً لا بأس به من المسؤولين الصغار والمتوسطين في السلطة التنفيذية، والكثير الكثير من السياح القادمين من دول الخليج.. وتتراوح معظم أعمار هؤلاء على الغالب، بين الأربعين والخمسين..
ثم هناك نسبة لا بأس بها من الشبان الصغار أبناء الشرائح الميسورة، وعدد من المراهقين، بالإضافة لبعض أصحاب السوابق والسلوك السيئ من لصوص ومجرمين وخارجين عن القانون والمفرج عنهم حديثاً، دون أن ننسى أن هناك من قد يرتاد الملاهي من الأناس «العاديين» الذين قد يقومون بذلك لمرة واحدة أو لمرات قليلة بدافع الاطلاع والفضول والرغبة في التجريب، أو تنفيساً لأزمات عابرة نفسية أو اجتماعية، أو تلبية لدعوة قد لا تتكرر.
ماذا يحدث في الملاهي؟
معظم الملاهي تقسّم برنامجها اليومي إلى فترتين، حفلة المساء، وحفلة السهرة، تغطي كل منهما «فنيّاً» «فنانات» وراقصات محليات ووافدات من الدرجة الرابعة أو الخامسة أو السابعة... يقدمن حفلات غنائية راقصة بمرافقة عازفين محليين، هم إما أعضاء في نقابة الفنانين، أو يحملون أذون عمل، وفي الحالتين لم يجد هؤلاء فرصة عمل تؤمّن لهم قوت يومهم غير العزف في ملهى..
بالنسبة لـ«فنانات» الملاهي المحليات، فهنّ أيضاً أعضاء في نقابة الفنانين، أو بالحد الأدنى، ينلن أذون عمل بسهولة من نقابة الفنانين بمساعدة بعض المتنفذين الذين يرتادون المرابع الليلية، أما الوافدات، ومعظمهن من روسيا وأوكرانيا ولبنان، فهؤلاء لهنّ متعهدون خاصون، هم من يساعدونهن في دخول البلاد، وهم من يشغّلونهن، وهم من يتحكّمون بأقدارهن.. وتشبه العملية بصورة كبيرة «تجارة الرقيق الأبيض»..
في معظم الملاهي، تبدأ الحفلة الأولى غالباً عند التاسعة وتنتهي عند الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلاً، أما الحفلة الثانية فتبدأ عند منتصف الليل وتستمر حتى مطلع الفجر، ويختلف سعر الطاولة باختلاف موقعها، فكلما اقتربت من «البيست» أو المنصة، زاد سعرها وارتفع شأن من يشغلها، والعكس صحيح..
ما إن يبدأ البرنامج وتظهر الراقصة/المغنية، حتى يعلو الصفير والتصفيق، وأثناء الصخب والرقص والغناء يشرع رواد هذه الملاهي المتعتعون من السكر بالرقص والخلع والتمايل على إيقاع الدربكة والطبلة والأورغ، ويتنافسون في الحصول على التحيات من المغنية بعد أن يقوموا بتنقيطها بمعظم ما يحملونه من أموال، وقد تتطور هذه المنافسة في بعض الأحيان إلى مشاجرات دموية..
أما المغنية والراقصة في الوقت ذاته غالباً، فتحاول طوال الوقت أن تظهر كل ما تقدر عليه من غنج وإيحاءات فاضحة لتبقي جمهورها بحالة انجذاب ونشوة، وبالتالي الاستمرار في رمي الأموال عند قدميها، وهي بدورها لا تتوقف عن توجيه التحية للكرماء منهم بأسمائهم التي غالباً ما تكون مستعارة، ويكنون أنفسهم بها لاستخدامات الملهى فقط، بحيث ينتقونها ذات وقع خاص مرعب لخصومهم «الليليين» مثل أبو الليل، أبو غضب، أبو رعد، أبو عبدو، أبو علي، إلخ....
ويؤكد (ز.م) وهو نادل في أحد الملاهي، حقيقة كررها الكثيرون ممن يعملون في هذه الأماكن، وهي أن الأموال التي ترمى على الأرض كـ«نقوط» قد تتجاوز حد المليون ليرة في كثير من الأحيان، وهذه النسبة تختلف باختلاف شهرة «الفنانة» وعدد معجبيها، كما تختلف من يوم لآخر، وتصل إلى مستويات قياسية أيام الخميس والجمعة.. لكن هذه الأموال لا تذهب للراقصة وحدها بالتأكيد، فهي قد لا تحصل إلا على نسبة بسيطة منها، أي (من الجمل أذنه)، وكذلك حال العازفين والساقين، أما حصة السبع فيحصل عليها صاحب الملهى، وشريكه المتنفذ الخفي، الذي غالباً ما يكون جالساً بين الجمهور وأول من يشجعهم على رمي «النقطة» بعد أن يبادر برمي مبلغ كبير تحت أقدام الراقصة.
مصالح وشراكات سرية
معظم أصحاب الملاهي والمرابع الليلية يتشاركون سراً مع مسؤولين بدرجات وظيفية مختلفة في الإدارات العامة والجهات التنفيذية، وأحياناً يكونون مرموقين أو من المتنفذين الأقوياء وأصحاب الحظوة، فالأول يساهم بأمواله وخبرته في إدارة العمل، بينما يساهم الثاني، الشريك السري، بنسبة صغيرة من المال، وبكثير من نفوذه وعلاقاته وقدرته على حماية هذا الملهى من المشاغبين والمتطفلين والجهات الرقابية والتنفيذية.. وكثيراً ما تكون حصة الشريك السري أكبر وغير مضبوطة بحدود واضحة أو خاضعة لما تقتضيه الشراكات عادة من ندية واحترام متبادل.
ويمكن ملاحظة أمر ناشز هنا، وهو أن صاحب أو مستثمر الملهى غالباً ما يكون من أصحاب السوابق أو السمعة السيئة أو الأموال القذرة، وأحياناً يكون مطلوباً للعدالة بتهم مختلفة، لذلك فإن معاملة شريكه أو حاميه له بطريقة يغلب عليها الابتزاز والفوقية، يصبح أمراً طبيعياً ومفهوماً.. ومن الطرائف التي تحدث في هذا السياق، أن الشريك نفسه قد يقوم بتشميع الملهى أو إغلاقه مؤقتاً إذا ما حدث خلاف ما بينه وبين المستثمر الصوري، وقد يلجأ الشريك القوي لهذا الأسلوب أيضاً إذا ما اقتضت الضرورة القيام بإجراء كهذا على سبيل التورية أمام رؤسائه، أو أمام بعض كبار مسؤولي الجهات الرقابية، ليس خوفاً منهم، بل لحسابات مختلفة!.
محرقة للأموال المنهوبة
إذا كانت النسبة الكبرى من الأموال الهائلة المنهوبة من القطاع العام ومن المضاربات والوساطات والاحتكارات وبيع الوهم... تُهرّب إلى خارج البلاد لتستقر في المصارف الأوروبية والأمريكية إلى غير رجعة، فإن نسبة لا بأس بها مما تبقّى منها داخل البلاد تُرصد للمشاريع الوهمية (لتنظيف الأموال)، أو تُحرق في الترّهات والتسلية والبحث عن الرفاهية، حيث يتم إسرافها في البذخ على الخدمات والقصور والسيارات والتقنيات الحديثة والمطاعم والولائم و(الأعمال الخيرية)، وتأخذ الملاهي من هذه الكعكة الكبيرة حصة جيدة يتناثر جزء منها على بعض المتعيشين فيها كعمال الخدمات والحراس والبوابين، لكن الطائل منها يذهب على الغالب، وكما مرّ آنفاً، إلى جيوب الناهبين نفسها، بعد أن يدور دورة صغيرة ليس إلا..
وإذا كان هذا حال السرقات الكبرى واللصوص الكبار والمخضرمين وأصحاب المكانات الرفيعة، فإن حال السرقات الصغرى واللصوص الصغار تختلف قليلاً في تفاصيلها، فمعظم الفاسدين الصغار داخل جهاز الدولة وخارجه، والمحتالين، ولصوص المنازل والشوارع والسيارات والأسواق، و«المشلّحين»، وتجار البضائع المسروقة ومروجي المخدرات والمهرّبين...إلخ.. يجدون في الملاهي الليلية فسحة للترويح عن النفس و«الاستمتاع بالحياة» وإرضاء بعض الغرائز النفسية والجسدية وإظهار السخاء، وغالباً ما تترصد دوريات الأمن الجنائي المطلوبين للعدالة في هذه الأماكن، أو تنصب الكمائن لهم أثناء سهرهم فيها، وهو ما قد يتطور أحياناً لإطلاق نار متبادل ويسقط فيه قتلى وجرحى..
ظاهرة لافتة.. ومثيرة للأسئلة
الحقيقة أن ظاهرة استثمار ملهى أو رعايته أو الإدمان على ارتياده، المتفشية بشدة في أوساط رجال المال والأعمال وأصحاب الثروات، تعكس إلى حد كبير مستوى التردي القيمي والأخلاقي والمعرفي الذي وصلت إليه نسبة لا يستهان بها من الشرائح الغنية، (وهي حديثة الغنى في معظم الأحيان)، نتيجة ضحالة ثقافتها وقصور وعيها وهشاشة بنيتها الأخلاقية وتفاقم نزعتها الاستهلاكية، مما يثبت مرة أخرى أن معظم هؤلاء لم يصلوا إلى المواقع أو الإمكانية أو السلطة التي تمكّنهم من تحصيل الثروة، سواء كانت شرعية بالمعنى القانوني أم لا، بفضل كفاءتهم أو مهارتهم أو مستوى تحصيلهم العلمي، بل بسبب المناخ الاقتصادي- الاجتماعي- السائد، وبسبب المحسوبيات والتنفذ والوراثة والاعتبارات الأخرى التي لا تمت للكفاءة أو للأخلاق بصلة..
ففي التحليل العميق لهذه الظاهرة، يمكن الاستنتاج أن مفهوم السعادة والتشارك الاجتماعي بالنسبة لأعداد كبيرة من الشرائح الثرية، أو متوسطة الثراء، لا يتعدى كونه محاولة لإشباع الغرائز بطريقة متطرفة بمساعدة المال، وليس له أية صلة بالمتع الروحية أو الاجتماعية الراقية التي قد يمنحها استثمار ثقافي أو فكري أو اجتماعي كرعاية منتديات أدبية أو صحف ومجلات وفرق رياضية أو مسرحية، أو نشاطات مدنية أخرى.. وهذا قد يكون من أبرز أسباب التخلف العام عندنا في معظم هذه الميادين، وقد ساهم احتكار الدولة للعمل الجماعي المستمر منذ عقود في إنتاج هذه الظاهرة وترسخها في المجتمع، ويكرّسها اليوم بصورة متزايدة ضعف المراقبة والمحاسبة وتجاهل القوانين وتمركز الثروة واشتداد الفساد وعدم تحديث التشريعات وفق متطلبات وحاجات المجتمع وقواه الحية..
بلادنا.. والسياحة «الترفيهية»
هناك الكثير من الأشخاص في جهات رسمية وغير رسمية يسعون بطريقة منظمة أو عشوائية، لتحويل البلاد إلى كازينو كبير.. ويرتكزون في مسعاهم هذا إلى مقولة الحكومة الشهيرة: «السياحة قاطرة النمو» دون أن يكون لديهم، كما هو الحال بالنسبة للحكومة، أي تصور واضح لمفهوم السياحة.. فهل المقصود هو المفهوم التاريخي للسياحة كما عرفته سورية، والتي اشتهرت به منذ الأزل كالسياحة الصحية والطبيعية والثقافية والعلمية وزيارة الآثار والأوابد والصروح الدينية التي تزخر بها البلاد، أم هي سياحة الدعارة وتسليع الناس؟.
لا شك أن الفساد في بلادنا لا يزال على أشده، وأن النهب للأموال العامة ما فتئ يتفاقم بصورة غير مسبوقة، وما يزال نتاج معظم الثروات يصب في جيوب اللصوص الكبار من مسؤولين فاسدين وتجار ومستثمرين ومتنفذين وسماسرة.. وكل ذلك يعزز انتشار هذه الظاهرة، ويجعلها في حالة مستمرة من الاتساع..
ومما يثير الاستغراب أيضاً موقف نقابة الفنانين من المسألة، فهذه النقابة التي تعد من الأعرق بين مثيلاتها عربياً، لا تحرك ساكناً للحد من حصول الكثيرات ممن يعملن في الملاهي على لقب «فنانة»، بل وإن مسؤولين مرموقين فيها لا يخجلون من التصريح علناً أن جزءاً كبيراً من واردات النقابة يتم تحصيلها من الراقصات والمغنيات المحليات والمستوردات اللواتي يعملن في المرابع الليلية..
حين تعلو معظم التلال الساحرة، ومعظم المناطق التي ما تزال خضراء، ومعظم الشواطئ، ومعظم ضفاف الأنهار، الملاهي والكازينوهات ومن يؤمها.. من، وما الذي يبقى في الحضيض؟؟
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.