بين طرفي معادلة الفساد..
تنطلق أغلب المقاربات لمسألة الوظيفة العامة ومشكلاتها في سورية من حقيقةٍ يتفق عليها أغلب المهتمين والمعنيين، ويمكن تلخيصها بالقول إن العمل في الإدارات العامة يتميز بانتشار الفوضى والفساد وغياب ثقافة العمل وقلة الأجور، وتنتهي كثير من هذه المقاربات إلى رد المسألة بمجملها إلى العطب في الأخلاق العامة، والاختلال في منظومة الحقوق والواجبات، كما تنتهي إلى مطالبة العاملين والمعنيين والمسؤولين بإعادة الاعتبار لثقافة العمل، وإرساء معادلة أداء الواجبات قبل المطالبة بالحقوق.
يمكن تفكيك أية منظومة حقوقية إلى جملة من الواجبات والحقوق المتقابلة، وتكتسب مسألة ترتيب الأوليات والمصطلحات أهمية خاصة في هذا المضمار، وإذا كان القول بأنه لا يصح أن تكون البداية من حقوقنا على الآخرين، قبل أن نكون ملزمين بواجباتنا تجاههم قولاً صحيحاً، فإنه صحيح من وجهة النظر الأخلاقية المجردة فقط ، أما وجهة النظر الحقوقية التي تعنى في الأساس بتأمين الاستقرار بأكبر قدر ممكن من العدالة، فإن الصحيح القول بأن هناك تقابلاً وتوازناً بين الحقوق الواجبات، بحيث يكون تحصيل الحق مقابلاً ومرافقاً لأداء الواجب، ولكن قبل ذلك فإن ثمة جملة من الحقوق الأساسية التي لا يرتبط اكتسابها بأداء أي واجب.
لا يختلف اثنان على أن هناك مجموعة من الحقوق التي تثبت للإنسان بمجرد ولادته بوصفها حقوقاً إنسانية عامة، من قبيل الحق في السلامة الجسدية، والحق في حرية الاعتقاد والتعبير على سبيل المثال، إلا أن هناك مجموعة من الحقوق الأخرى التي تثبت للإنسان بمجرد كونه عضواً في جماعة المواطنين، أي بوصفه مواطناً بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، فلا يرتبط الحق في التعليم وتنمية المواهب والقدرات والمهارات بأداء أي واجب، كما لا يرتبط الحق في الحصول على مسكن، والحق في الحصول على عمل بأداء أي واجب أيضاً. وبالإضافة إلى ذلك فإن شروط التعليم الكافي والمسكن الصحي اللائق والأجر المتناسب مع متطلبات الحياة، هي شروط أساسية مرتبطة عضوياً بالحقوق السابق ذكرها، بحيث يكون أداء هذه الحقوق منقوصاً إذا لم تتوفر هذه الشروط، ويقع على عاتق دولة المواطنين التي تكتسب كيانها وشرعيتها من هؤلاء المواطنين أنفسهم تأمين هذه الحقوق لكل مواطن قبل مطالبته بأداء إي واجب.
من هذه الزاوية فقط يمكن مقاربة مسألة الوظيفة العامة في سورية، لأنه يقع على عاتق جهاز الدولة تأمين فرص العمل للمواطنين سواء في الإدارات العامة أو خارج هذه الإدارات، وفي إطار قيام جهاز الدولة بسد جزء من حاجة العمل من خلال الجهات العامة، يقع على عاتق هذه الجهات تأمين العمل اللائق والمتناسب مع إمكانيات العامل، وبالأجر الكافي لتأمين متطلبات الحياة الكريمة لهذا العامل وأسرته، وبعدها ندخل في معادلة الحقوق والواجبات المتقابلة، من خلال مطالبة العامل بأداء العمل الموكل له بأقصى ما يستطيعه من كفاءة ونزاهة، والالتزام الدائم بصيانة حقوقه وأدائها بشكل دوري، وهنا يكون صحيحاً الحديث عن ضرورة إرساء معادلة العمل أولاً والجزاء ثانياً، باعتبار أن الجزاء المقصود هو المكافآت والترقيات والمزايا الإضافية، وذلك من خلال منظومة عقوبات ومكافآت عادلة ومتوازنة، ومن خلال إلزام العامل بأداء واجبه تحت طائلة عقوبات تبدأ من العقوبات المعنوية، وتنهي بالفصل من العمل في حالات الإخلال القصوى بالواجبات. وأما الأجر المتناسب مع متطلبات الحياة فإنه ليس عنصراً في هذه المعادلة أصلاً، بل هو خارج عنها وسابق لها، ولا معنى لوضع هذه المعادلة موضع التنفيذ قبل أداء هذا الحق المكتسب لكل مواطن عامل لدى الإدارات العامة.