حكايتنا مع أرضنا، مائنا، هوائنا...ملفات تدور عام للبيئة... عقود من انتهاكها!

سنوات قليلة عمر وزارة الدولة لشؤون البيئة، ومن هنا ندرك كيف نولي الشأن البيئي جل اهتمامنا، وكيف أنّ ما يشكل الخطر الداهم على مستقبل أبنائنا- بعد أن سلمنا بمستقبلنا الملوث- يستحوذ على الجهد الحكومي، أما كيف تسيّر هذه الوزارة شؤوننا البيئية فيبدو هذا جلياً بالانجازات التي حققتها، وبالبيئة النظيفة في البر والبحر والفضاء، وبأمراضنا المتفاقمة.

الذباب الغريب يهاجم القرى في ريف دمشق، وينشر أمراضاً جديدة، المياه الملوثة و«المتربة» تصل صنابير البيوت في قطنا، الصرف الصحي يسقي خضراوات الغوطة، قرى وبلدات كثيرة بلا حاويات، وتعلن وزارة الإدارة المحلية والبيئة ريف دمشق واجهة مشروعها البيئي، والشعارات التي تدعو إلى بيئة نظيفة تتصدر مداخل الريف الدمشقي. 

حكايتنا مع أرضنا، وهوائنا، ومائنا، ليست سوى ملفات تدور، ومشاريع قيد الانجاز، وقليل من العمل، كثير من الكلام.. وعلى الأرض واقع مغاير!. 

في البداية...إنه الجهل

قبل أن تتبنى الوزارات المعنية حملات النظافة والدفاع عن البيئة، وقبل أن نملأ البلد باليافطات والشعارات كجزء من هذه الحملات، الضروري بمكان أن نخلق برنامجاً وطنياً يتجاوز في عمره الأسابيع المقررة لكل حملة، ويجب أن ندخل في منهاج المدرسة- عملياً وليس نظرياً- كتباً تثقف الجيل بيئياً، وتعرفهم ببيئتهم، فليس قص الأظافر وحده، والتفتيش الصباحي المدرسي يكفي على صعيد الحقل التربوي، الذي يؤسس لثقافة بيئية مجتمعية.

وهنا سنستعرض كيف تعرف الوزارة حملتها، وكيف ستسوقها لنا: «رحلة الحملة ستبدأ قبلها بأسبوع، وتتضمن مؤتمراً صحفياً، تغطية تلفزيونية تتضمن لقاءات مع مسؤولي الوزارة والجهات المعنية، لوحات طرقية على عدد من المحاور الرئيسية في المحافظات، عبارات على الشريط الإخباري، إعلانات في الصحف العامة والخاصة، الإعلان في خطب الجمعة، رسائل صوتية بالتعاون مع مؤسسة الاتصالات وشركات الخليوي»!.

قد تعتقد الوزارة أن هذا يكفي، وأن الحملة الإعلامية ستؤدي مفعولاً سحرياً، لكن على الأرض واقع يجلب اليأس، فمنذ أكثر من أسبوع بدأت حملة (كلنا شركاء في حماية البيئة) من مدينة الحجر الأسود، على الأرض ما زالت أسواق السيارات دون حل لضوضائها، ما زالت تشكل حالة تلوث بصري، وسمعي من بداية المدينة، وصولاً إلى الشوارع الضيقة لسكانها الفقراء.

الناس بحاجة إلى أكثر من الحملات الإعلامية، حاويات للقمامة عوضاً عن البراميل، مياه شرب نظيفة عوضاً عن مياه الصهاريج التي تصنع الثروات لأصحابها، والمرض للناس..الخ من معزوفة المسؤول المتفائل، والمواطن الواقعي.

أضف إلى كل ذلك غياب ثقافة الحفاظ على الثروات الطبيعية التي بدأت بالانحسار، بالأحرى الحفاظ على ما تبقى منها، وهذا ما لم تلحظه الورقة السحرية للحملة، هذا إذا لم يدعِّ واضعوها أنها متضمنة في خطة الندوات، واللقاءات المتلفزة. 

التلوث البصري

أبشع أشكال التلوث، وقهر الجمال الذي كان يميزنا، مدناً وأريافاً، دمشق أولاً ليست من أقدم المدن في العالم فحسب، بل من أجملها، لكن هذا الجمال هاجمته الندوب والقبح من خلال كتل الأسمنت، كتل البيوت المخالفة التي تحيط بها.

ريف دمشق الغربي والشرقي من أوسع محافظات البلاد، من القلمون حتى جبل الشيخ، المنظر واحد، لا تكاد تميز بين مدينة وبلدة، توسعات على حساب الأرض الزراعية، توسعات أفقية للأسمنت، بيوت تتكاثر وأرض تتقلص.

المشكلة هي أن المعنيين بالأمر أيقنوا ويعملون على كون هذا الواقع أضحى منتهياً، مجموعة القوانين التي تم إصدارها لم تستطع إيقاف الخراب المستمر، ولم تستطع وقف إرادة الجشع عند تجار البناء ومتعهدي المخالفات، وتم قبول المشكلة تحت تسمية (مناطق السكن العشوائي).

في غوطة دمشق التي ينتهكها التصحر، ويكفيها ما تعانيه من الصرف الصحي، وقلة المطر، والاعتداء على أشجارها، والمسابح والمتنزهات التي تستهلك ماءها، تمتد معامل البلوك، ومغاسل السيارات لتحرق الأرض، وما محاولة نزع المناشر ومعامل الرخام والدباغات إلا سعي متأخر.

المياه..أزمة مستفحلة

الصهاريج التي كانت قبل عقد تعمل لري المزارع والبساتين، صارت توزع لنا ماء الشرب، وصار لها تجارها، وهذا الماء من جبل الشيخ، وهذا من بقين، وهذا يصلح للشاي، وذاك للغسيل...المياه أزمتنا المستفحلة، والسبل التي كانت تملأ شوارع دمشق غاب أغلبها، وصار المواطن في أيام الحر يحمل عبوة الماء في يده... منظر جديد سنعتاده.

المشاكل البيئية تتراكم وتختلط مع بعضها، بعضها يولد مشاكله الخاصة الصغيرة، وآخر يولد مشاكله الكبيرة، فلا يمكن أن تفصل مشاكل المياه عن مشكلة الصرف الصحي، فآلية العمل متشاركة، وعقلية المتعهد التي تعمل بها وحداتنا الإدارية صغرت أم كبرت تساهم في تعزيزها، فالصرف الصحي بجوار شبكات المياه التالفة، أو الجديدة دون كفاءة، إما بسبب ضعف نفس منفذها، أو بسبب سكوت الطرف صاحب المشروع عن الأخطاء المرتكبة، أو لكليهما.

أغلب شبكات المياه في ريف دمشق تم استبدالها، لكنها تعاني من شح الماء، وأغلبها لا يصل إلى أماكن المخالفات، لكونها مخالفة، كما أن هناك أسباباً غير منطقية تعود إلى رؤية مناطقية، فأغلب بلديات الريف لا تخدم تجمعات النازحين، ويجب على محافظتهم أن تخدمهم.

ما تبقى من أنهار صغيرة، ينابيع، سواق بالكاد تذكرنا أن لدينا في الذاكرة نهراً، لا حرمة لها، وإن سننا لأجلها القرارات، فحرم النبع الذي يسقي مدينة مثل (قطنا) يتجاوز عدد سكانها الـ 100ألف نسمة تم الاعتداء عليه بالصرف الصحي، وأدى ذلك إلى كوارث وجوائح مرضية، وصدرت قرارات مشتركة من وزارة الصحة والري بالحفاظ عليه وتحديد حرمه إلا أن ذلك ما زال في طي القرارات المحفوظة في البلدية، ووحدة مياهها.

أما بردى الأب الشرعي لدمشق، يرويها ويسقيها، ويخفف عنها الحر، فحكايته من منبعه إلى مصبه محزنة، وما زالت علب الكولا وعبوات المياه، وما يتركه الساهرون، وبقايا الإهمال تشهد على فروعه المتوزعة في الغوطة، حتى يصل إلى بحيرته التي لم يصلها من سنوات طويلة. 

الهواء..نختنق

ما تقوله الدراسات عن هوائنا يؤكد أننا نختنق، والأمراض التنفسية والصدرية التي تتكاثر، والربو القاتل، دلالات لا أوضح منها على اختناقنا، من الأسباب أننا نزيد من مساحة الغيمة السوداء فوق دمشق، وننقلها رويداً رويداً إلى الريف، السيارات التي تركب على بعضها في شوارع دمشق، السيارات التي ننقلها إلى الريف، نتوسع باتجاه نفث الكربون إلى خارج المدينة، بعد أن أغلقت علينا، وكل تجاربنا لحل المشكلة لا جدوى منها.

القياسات في المدن السورية عن حجم العوالق فيها ينذر بالكارثة، ففي حلب تصل نسبة العوالق فيها من 303 حتى 603، تليها دمشق 231 - 588، ثم دير الزور 263-486... إلى آخر هذا الموت المعلن.

الوزارات المعنية تبحث عن الحل، لكن لماذا تتعقد الأزمات؟ وزارة النقل تدرك أن التلوث الذي تنشره وسائل النقل هو العامل الأكبر في هذه الأرقام، فزادت حلولها الهواء فساداً، من المازوت الأخضر الذي لم يصل إلى خزانات السيارات، إلى حذف السرافيس وإدخال الباصات الملونة، بالدخان نفسه وألعن، نقل كراجات الانطلاق من المدينة إلى أطرافها خلق أماكن جديدة للتلوث والازدحام، ترحيل مشاكل، وتوسيع أزمات. 

جهد حكومي..كبير؟!

وزارة البيئة تعمل على حلحلة المشاكل المعلقة، ولديها مشاريعها، والمشاريع حصص للخطط الخمسية المتعاقبة، وكذلك تعديل القوانين، السيدة وزيرة البيئة تقول: «إن الوزارة تعمل على تعديل القانون 50 لعام 2002 بما يكفل تفعيل نظام المراقبة البيئية وتعديل المواد المتعلقة بالتنظيم الإداري بما يتلاءم مع ضرورات تطوير العمل البيئي».

وتتحدث عن تنفيذ وزارتها لـ 24 محطة معالجة للصرف الصحي منفذة على مستوى سورية حتى نهاية حزيران 2010، إضافة إلى 44 محطة قيد الإنجاز منها في دمشق وريفها 32 محطة قيد التنفيذ والعرض والإعلان ستعالج 245 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي في اليوم،  بحيث يصبح المجموع الإجمالي للمياه المعالجة 650 ألف متر مكعب

أما عدد المطامر الصحية المنجزة فبلغ 11 مطمراً منها 4 قيد الاستثمار من إجمالي 44 مطمراً نصت عليها الدراسات الفنية في المحافظات، في حين بلغ عدد محطات النقل المنجزة 14 محطة منها 2 قيد الاستثمار من أصل 120 محطة يراد تنفيذها على مستوى سورية. 

اعتراف..حالم

لا ننكر على وزيرة البيئة شفافيتها، فهي تقول: «إن التلوث الحاصل نتيجة طرح مياه الصرف الصحي والصناعي غير المعالج إلى الأراضي والمسطحات المائية، أدى إلى تدهور النظم البيئية المائية للأنهار والبحيرات والمياه الجوفية، وخروج بعضها من دائرة الاستثمار».

لكننا نتساءل ماذا ستفعل؟ من المؤكد أن الوزارة تدرس، تعد الدراسات، تستشير، تنتظر المعونات..إلخ. تجيب السيدة الوزيرة: «تقوم الوزارة حالياً بدراسة تلوث نهر العاصي التي سيتم الانتهاء منها هذا العام، كما تم إدراج مشروعي المراقبة والإدارة البيئية لنهري العاصي، ونصب شبكات الرصد البيئي على النهر ضمن الخطة الخمسية القادمة، إضافة إلى البدء بتنفيذ مشروع المراقبة والإدارة البيئية لنهري الكبير الشمالي والجنوبي ونصب شبكات الرصد البيئي عليهما».

بقية العاملين في الوزارة، من مستشارين، إداريين كبار، أيضاً يساهمون في إيصال الحقيقة القاسية لنا، المهندس خالد الشرع مدير سلامة الأراضي في الوزارة يقول: «إن الأراضي في سورية تعاني أشكالاً مختلفة من التدهور البيئي مثل التصحر، والتملح والتلوث، وتناقص الغطاء النباتي الطبيعي، وبشكل خاص ما حدث في البادية من رعي جائر، واستنزاف مفرط نتيجة لزيادة الحمولة الرعوية والأنشطة الإنتاجية غير المدروسة، ومحاولة استغلال الموارد الطبيعية المتوفرة». 

3 % ضائعة

أما في أثر التلوث البيئي على نتاجنا المحلي فليس بالأمر العادي، فالهدر الناتج عن هذه المشاكل كان بالإمكان الاستفادة منه في التخلص من مشاكل أخرى، وفي دعم الاقتصاد الوطني، والمواطن على حد سواء.

تكشف وزيرة البيئة عن حجم هذا الضرر، تقول: «يتسبب التلوث البيئي في هدر من 1.8 إلى 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي السوري سنوياً».

في  العام 2007 بلغت التقديرات المتوسطة للإنفاق على التلوث البيئي 45.6 مليار ليرة (971 مليون دولار) سنوياً، ما يعادل 2.4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. السنة. 

أبو منجل.. أثرنا

المكتب الإحصائي للأمم المتحدة يقول : «إن في سورية 26 نوعاً مهدداً بالانقراض،17 من المملكة الحيوانية، و9 من المملكة النباتية».

وقد اتخذت سورية العديد من الإجراءات للحفاظ على الحيوانات المهددة بالانقراض كان آخرها الإجراءات المتخذة لحماية طائر "أبو منجل الأصلع" الذي تم اكتشافه في منطقة تدمر الصحراوية من الانقراض، وتم اكتشاف هذا الطائر من مواطنين سوريين عن طريق المصادفة، يضيف المكتب الأممي: عدد طيور أبو منجل الأصلع في العالم تتراوح ما بين 200 -300 طائر متواجد في المغرب وتركيا وسورية واليمن والسنغال، وجد منها خمسة في سورية ويعتقد أن هذه الطيور الخمسة هي الوحيدة المتبقية في العالم، ولا تزال تحفظ مسار خط هجرتها التاريخي، حيث تبدأ بالقدوم إلى تدمر السورية في شباط وحتى تموز من كل عام.

حكماً هناك قوانين حكومية لتحريم الصيد الجائر، ولكن هل تستطيع الطيور الوطنية أن تهرب من طلقة صائد جشع؟ أو من راغب ببيع الطيور الحرة في القلمون والصحراء للأغنياء العرب الذين يحبون الفروسية وحمل الطير الحر على ساعد جلدي؟!.