البرد يتغلغل في عظامنا ولم يصل دعم الحكومة بعد السياسات الحكومية تتهرب من حل أزمة لتخلق أزمات أخرى
لم يعد المواطن السوري على يقين بأن الحكومة ستفي بوعودها، ولم نعد ندري متى ستُصدِر حكومتنا الرشيدة قرار دعم المازوت، ومتى ستبدأ بتوزيع الدعم على هذا الشعب الصامد الذي تعود من خلال كثير من التجارب السابقة أن يتعرض لأقصى درجات الإذلال والإهانة والخضوع، ويصبر إلى أن تأذن الحكومة بالتكرم عليه بحسنة أو صدقة، وها هو الشتاء قد تغلغل في ليالينا الباردة ولم تأذن الحكومة بعد بإطلاق برنامجها أو آليتها الجديدة لإعادة توزيع الدعم إلى مستحقيه وأصبح لسان حال المواطنين يقول: «وصل البرد إلى عظامنا ولم يصلنا دعم الحكومة».
نعم حتى الآن لم تجد الحكومة الحل الأنسب لموضوع إعادة توزيع الدعم لمستحقيه، ومن الممكن أن تتمخض الآلية الجديدة عن عقبات أخرى، لأن مشروع قانون إحداث صندوق المعونة الاجتماعية لم يتم إقراره بعد، ولم تُعرَف آلية عمله ومن هي الأسر والشرائح التي ستستفيد من الدعم، وقد يصل عدد الأسر التي يمكن أن تستفيد من الدعم لهذا العام حسب استبيان وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل إلى 750 ألف أسرة، أي حوالي 3.5 ـ 4 مليون مواطن فقط، بينما الطلبات المقدمة لدى الوزارة الشؤون هي حوالي 450 ألف أسرة فقط أي حوالي 2 ـ 2.5 مليون مواطن فقط.
مفارقات كبيرة بين عامين
اخترع مجلس الوزراء مشروع الصندوق الوطني للمعونة الذي لم يولد على أرض الواقع بعد، والذي يشبه جمعية خيرية توزع الهبات والحسنات على الفقراء والمحتاجين، بناء على المسح الاجتماعي الهادف إلى تبيان الأسر الأشد فقراً وعوزاً، ولم تُقبِل الكثير من الأسر للتسجيل في هذا المسح بسبب ضبابية أهدافه منذ البداية والادعاء أنه صندوق للبطالة لتوزيع رواتب على من ليس لديهم دخل، فهل الدعم فقط لمن ليس لديهم دخل؟ فلمن يلجأ إذن محدودو الدخل؟!
مؤخراً أعاد وزير المالية الأمل للأسر التي لم تسجل قائلاً إن الباب مازال مفتوحاً أمام الأسر التي لم تقدم بياناتها باستدراك هذا الأمر للحصول على معونات الصندوق التي لن تقف عند حدود دعم المازوت، (حسب التصريحات الحكومية)، وإنما سيتعدى الأمر ذلك لتحديد أشكال تقديم المعونات الاجتماعية المختلفة.
باختراع الشكل الجديد للدعم تكون الحكومة قد اعترفت بشكل مباشر وغير مباشر بفشل الآليات الماضية لتوزيع الدعم، حيث صرح وزير المالية أنه يأمل أن تكون آلية صندوق المعونة الاجتماعية أفضل من 44 مليار ليرة سورية مبلغ البدل النقدي للعام الماضي، ومن آلية القسائم التي وزعت في العام قبل الماضي، مؤكداً أن آلية الدعم السابقة بتقديم البدل النقدي للدعم والبالغ 10 آلاف ليرة سورية للأسرة لم تنقذ الفقير من فقره ولم تحل مشكلة المحتاج.
هنا لابد من وقفة تأمل ومحاسبة، فحتى هذه الحسنة أو الهبة المقدمة من الحكومة تحت اسم الدعم، والتي تعتبر مالاً وقفاً للفقراء والمحتاجين ومستحقي الدعم، قد تعرضت على ما يبدو للنهب والاختلاس من قبل القائمين عليها (مع أنها مال محرم) فبحسبة بسيطة نجد أن الـ44 مليار ل.س التي وزعت بدلاً نقدياً مبلغ مبالغٌ فيه، فالـ44 مليار تعني وزعت على أربعة ملايين وأربعمائة ألف أسرة سورية تستحق الدعم، وهذه الأسر بمجموعها تشكل 22 مليون مواطن، وهو تعداد سورية بالكامل، بما فيها المقيمون والوافدون والأغنياء والذين لا يستحقون الدعم، علماً أن هناك أسر كثيرة تستحق الدعم ولم تحصل على مبلغ البدل النقدي، وهي منتشرة وكثيرة في كافة المناطق على مساحة سورية، وهنالك الكثير من الأسر التي حصلت على مبلغ البدل النقدي ثم استُرِد منها بحجة أنها لا تستحق، وهي أيضاً كثيرة على مساحة سورية، وعلماً أنه لو طال الدعم كل المستحقين الحقيقيين والبالغين حوالي ثلاثة ملايين أسرة (حوالي 15 مليون مواطن سوري). لكان المبلغ اللازم للدعم 30 مليار ل.س فقط، وهنا نتساءل أين ذهبت الـ14 مليار ل.س الباقية؟!!!
بين المواطن والحكومة
لفترة طويلة غاب موضوع الدعم عن التصريحات العلنية الحكومية، فنائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية رفض الخوض في تفاصيل دعم المشتقات النفطية، وفضل عدم البوح عن سياسة الحكومة حول ذلك، وكان ارتفاع درجات الحرارة وبقاء الأيام دافئة حتى نهاية شهر تشرين الثاني من العام 2010 وخلال شهر كانون الأول أيضاً قد شكل تعاطفاً مع الفقراء بعدم الضغط عليهم لاستجرار المازوت للتدفئة التي لم يحتاجوها بعد، كما شكل ستاراً وهمياً اختبأت الحكومة خلفه كمن يختبئ خلف ظل إصبعه، وفي تصريح للنائب الاقتصادي نشر على أحد المواقع الالكترونية قال إن (الحكومة وجعها رأسها من الدعم في العام الماضي، والذي لم يلق رد فعل إيجابي من قبل المواطنين، ولو أن الحكومة السويسرية قدمت لمواطنيها دعماً بقيمة مليار دولار لشكروا وامتنوا).
هذا جزء مما يتعلق بالحكومة، بينما في مجالس الفقراء يتردد شيء مغاير تماماً، فقد بدأت الأسر السورية ينتابها القلق والهم، وتتكهن من الذي سيتمتع بنعمة الدعم ومن الذي سيُحرَم منها، لأنه حتى وإن كان الشعار الذي تتمترس خلفه الحكومة دائماً هو ضرورة إيصال الدعم إلى مستحقيه، إلا أن التجارب السابقة تمخضت عن ابتعاد الدعم أكثر عن مستحقيه، حتى لجأ الكثير من المواطنين إلى المجهول كالتنجيم والتبصير والأبراج الفلكية ليتبينوا هل سيصيبهم هذا الحظ أم لا، لأن في سياسة هذه الحكومة لا شيء واضح ولا بيان أو تصريح يمكن الاعتماد على تصديقه والعيش على أمل تحقيقه!
حول تصريحات الحكومة وتعاطيها مع موضوع دعم المازوت تساءلنا مع المواطنين الذين علقوا كما يلي:
ـ المواطن حسان الحمد هو أحد الكثيرين الذين عالجوا الخطأ بخطأ أكبر، وحاولوا إيجاد الحل الفردي المفيد على الصعيد الشخصي فقط، ولكنه مؤذٍ ويعتبر خرقاً للقانون بالمنظار العام، وقال «دعم المازوت تأخر كثيراً، وقد لا يكون هنالك دعم نهائياً، والمازوت غالٍ جداً وليس مقدورنا تحمل سعره، فوجدت أن مدفأة الكهرباء أرخص وأوفر ومتاحة، وخاصة إذا كانت الكهرباء (ببلاش) يعني تعليق على الشبكة، رغم أنه عند العواصف والمطر لا تعتبر مدفأة الكهرباء بديلاً جيداً، ولكن ما الذي يجبرك على المر سوى الذي أمر منه؟»
ـ المواطن عمر ق. قال: مثلي مثل كل الفقراء والمشحرين في هذا الوطن القاسي من أصحاب الدخل المحدود، وأسمونا مستحقي الدعم، ولكن علينا بعد اليوم ألا ننتظر الدعم الوهمي، ولازم ندبر رؤوسنا حتى بالطرق غير الشرعية، فأنا عندي أطفال صغار وعندي أولاد بالمدرسة يسهرون على دراستهم، وأحتاج إلى مدفأتين في بيتي على الأقل، وتعملان طوال اليوم، وأستهلك كل يوم 20 ليتر ثمنها 420 ل.س، يعني أحتاج في الشهر الواحد من شهور الشتاء لأكثر من 12 ألف ل.س للتدفئة فقط، فمن أين نحصل عليها؟! هل نسرق؟! ننهب؟! نقتل ونعمل عصابات وشغباً؟! لم يبق أمامنا سوى ذلك!».
ـ المواطن هاشم.ع.ح قال: والله أنا أرى أن سياسة الحكومة على مدى السنوات الطويلة الأخيرة لا تتضمن سوى إذلالنا وقهرنا ومعاملتنا على أساس «جوِّع.... بيلحقك» فإذا كان قصدهم إطالة فترة إذلالنا وتوسلنا وبعدين يوزعوا الدعم بعد أن ينتهي البرد ثم نشكرهم، فلا نحتاجهم ولا نحتاج دعمهم، ويريدوننا أن نكون شاكرين وممنونين لعطاياهم؟ هل نصلي لهم صلاة الشكر؟! هل يتصدقون علينا بمنّة أو حسنة؟ ولا ندري كيف يقارنون وضع المواطن السوري بالسويسري أو بغير دولة متطورة، فالرواتب في كل بلاد الدنيا التي تحترم مواطنيها أضعاف مضاعفة عن راتب الموظف السوري، وأساساً الحياة المعيشية في سويسرا بسهولتها وتوفر مقوماتها واحترام كرامة المواطن فيها تعتبر مضرب مثل».
ـ أبو ابراهيم الذي يعمل ناطوراً في ورشات البناء بعد أن كان يعمل فلاحاً يزرع القمح بالفدادين قال: «أساساً غلاء سعر المازوت هو الذي خرب بيوتنا وأجبرنا على ترك حقولنا وزراعاتنا، وشردنا بعد أن كنا يوماً من الدعائم الأساسية لغذاء الكثير من المواطنين، واليوم يلاحقنا غلاء المازوت ويهددنا بالبرد والمعاناة، والأولاد يلزمهم دفء، ولا نستطيع شراء المازوت فنعمل على لفهم بالثياب السميكة طول اليوم داخل البيت وخارجه، وفي حال اشتد البرد أكثر فإننا نشغل عيداناً من الحطب والخشب نلملمها حسب ما يجود به الحظ والقدر، والموقد هو تنكة مثقوبة على الجوانب تمثل موقداً نموذجياً للحطب».
ـ الأستاذ أسامة ع. الوافد من الريف إلى المدينة بحكم الوظيفة قال: «في ضيعتنا اتجه الكثيرون إلى مدافئ الحطب نظراً لعدم قدرتهم على شراء المازوت، وانتشرت بشكل خطير الاعتداءات على الأشجار والأحراش وخاصة بعد أن استغل تجار الحطب تزايد الطلب عليه فارتفع سعر من 3000 ل.س للطن الواحد إلى 6000 ل.س، وعندما ارتفع سعره امتنع الكثير من الأهالي عن شرائه، بل لجؤوا إلى شراء المناشير العاملة على الكهرباء والبنزين لقطع الأخشاب بأنفسهم، فانظر إلى أي مدى خطير أوصلنا إليه امتناع الحكومة أو تأخرها عن إقرار آلية دعم المازوت لهذا العام!!!».
ـ كثير من المواطنين أجمعوا على آراء مشتركة وتصريحات متشابهة، قاطعين الأمل بدعم الحكومة لمواطنيها قائلين إن الدعم لن يطال إلا من لا يجد قوت يومه، ويعيش في مجاعة مثل مجاعات الدول الإفريقية التي تلعب بها المؤامرات الخارجية، فالاستبيان يقول إن من يملك في منزلة تلفزيوناً أو غسالة آلية أو براداً فإنه لا يستحق الدعم.
العصا السحرية بيد الحكومة
إن الحل الكامل والشامل لكل تلك المشكلات والأزمات التي خلقتها الحكومة بسيط جداً، ولا يحتاج لكل هذه الجهود واللف والدوران في اختراع أساليب وآليات جديدة تشير في الظاهر إلى احتواء المواطنين بعطف ورعاية الحكومة واهتمامها، ولكنها في الحقيقة جوفاء فارغة، وتنقلنا من أزمة إلى أخرى. الحل يكمن بوضع برامج وخطط وسياسات اقتصادية اجتماعية شاملة وبعيدة المدى، تقلل الهوة بين الأجور والرواتب والحد الأدنى لمتطلبات السلة المعيشية اليومية للمواطن، وحتى لو كان بشكل تدريجي وصولاً إلى ردمها نهائياً. تتمثل هذه السياسات باستعادة الدولة لدورها الرعائي الكامل وضبط الأسواق والأسعار بما يلائم القدرة الشرائية للمواطن، ورفع الأجور والرواتب من موارد حقيقية وهي متاحة ومعروفة وبسيطة ولكن الحكومة لا تنوي استخدامها وأولها ضبط التهرب الضريبي ووضع نظام ضريبي يخفف العبء عن أصحاب الدخل المحدود ويستفيد من الضرائب على أصحاب الدخول العالية والعالية بشكل خيالي، والمورد الثاني هو بمكافحة الفساد والنهب والسرقة الذي يتعرض له القطاع العام وكافة مفاصل الدولة، ففي اتِّباع هذه السياسات يمكن حل الكثير من المشاكل والأزمات، والحفاظ بشكل جدي على كرامة الوطن والمواطن.