التعليم العالي ومشكلاته: الذاتي وضعف السياسات التعليمية 2/3
من المدرسة إلى الجامعة
خارج إطار المعايير المعتمدة في تقييم جودة التعليم العالي والمستوى الفني للجامعات، يمكننا الإشارة إلى جملة من العوامل التي تؤثر على منظومة التعليم العالي بشكل مباشر أوغير مباشر، أهمها ما يعود بجذوره لمرحلة التعليم الأساسي والثانوي الذي لا يشك أحد بحاجته لمراجعة عامة وشاملة وإعادة صياغة لمجمل قضاياه مثل أولويات التعليم وعلاقتها بالعملية التنموية، الطرق التربوية في نقل المعلومة، شكل توظيف المعلومة وإبراز أهميته العلمية والمعرفية، التعامل مع المعلومة من منظور حركي لا منظور سكوني، التعامل مع الطالب وكيفية تحريض وعيه الإبداعي وتوجيهه نحوالمبادرة والتحليل والاستقراء، التبادل المعرفي بين الطلبة،...
هذا الخلل غالباً ما ينتج تلميذاً ذا مستوى علمي ومعرفي متدنٍ أومقولب يعتمد على الاستظهار بدل التشخيص والتقليد بدل التحليل والابتكار، تلميذاً غير قادر على تطوير المعلومة وإستثمارها، وهذا ما يفسر معاناته في فهم الرياضيات المتقدمة، استيعابه للتكنولوجيا الفائقة، الربط التكاملي بين المعلومات...، عدم إتقانه للغات الأجنبية وحسن توظيفها في عملية التلقي العلمي...
عوامل أخرى ترتبط بالمرحلة الانتقالية من المدرسة إلى الجامعة التي تبدأ بنظام القبول الجامعي الذي لم يستطع الخروج من مركزيته المفرطة المرتكزة على شرط علامة النجاح في الشهادة الثانوية التي أثبتت أنها تعبير عن قدرة الطالب على الحفظ لا على التفكير الإبداعي والتحليل المنطقي، ومما هولافت للانتباه أن للجامعة محاولات عدة للبحث عن أسس أخرى لنظام القبول الجامعي إلا ان جميع محاولاتها كانت تعود لتصب في المسار ذاته مع تعقيدات غير مبررة وعدالة اجتماعية غير محققة ولتنتهي من حيث بدأت مع نظام التوجيه القصري لآفاق مستقبل الطلبة.
غير أن إشكالية أخرى تعترض الطالب من لحظة انتقاله من المرحلة التربوية وبناء الشخصية إلى مرحلة التعامل مع المعلومة وحسن استثمارها، حيث يقف منذ لحظة دخوله الجامعة في مواجهة صدمة علمية ومعرفية يرافقها تبدل نوعي في نظام التعليم (حضور، دوام، علامات، طرق الاختبارات والامتحان، آليات وضوابط النجاح...) وطبيعة العلاقات الجامعية (العلاقة مع الأستاذ والزملاء...)...إلخ، وما أن يتمكن من وضع منهجية خاصة به للتفوق على مركبات هذه الصدمة حتى يقف أمام صدمة جديدة تمس جانب الثقة بالذات وقضية العمل وأفق بناء المستقبل... ولعل تزاوج هذه القضايا معاً يأتي لينمي ظاهرة التسرب الدراسي الذي يساهم من جديد في تفاقم عدم الثقة بالذات وبالمستقبل.
من الجامعة إلى سوق العمل
إن ما نقرؤه من مؤشرات عن مستوى التنمية في سورية وعن تراجع مستوى التعليم العالي، إنما يأتي كنتيجة للتراجع في السياسات الإنمائية والانجراف نحوالليبرالية اللاواعية التي عملت على زيادة التباين الطبقي والفقر في المجتمع السوري حيث تدل الإحصاءات الصادرة عن الأمم المتحدة أن سورية انتقلت ضمن البلدان النامية (التسعين) وخلال تسع سنوات فقط من المرتبة 34 في معدلات الفقر في عام 2001 إلى المرتبة 56 عام 2009
وما هولافت للانتباه أن جميع الحكومات منذ الاستقلال حتى الآن تتغنى بكفاءة الجامعي والفني السوري وانتشاره في الدول الغربية والسوق الخليجية، معتبرين أنهم كثروة بشرية جزء من منظومة الاقتصاد السوري ورافداً من روافده الهامة. أما السلطات السياسو-علمية فتتباهى بأنها تغذي السوق المجاورة ومخابر البحث العلمي في البلدان المتقدمة بجامعيين من صناعة سورية.
نظرية انتهازية خالصة تحاول الحكومات الترويج لها لتهرب نحوالأمام في عملية تغطية لبؤس سياساتها الإنمائية، في الوقت الذي يفترض فيه أن تتوجه نحوتثبيت الجامعي باعتباره ثروة بشرية وقوة محركة للعجلة الاقتصادية ومشاريع الإنماء الوطني بتبنيها سياسات وطنية صحيحة تحقق النمووالازدهار الوطني الذي بحث ويبحث عنه الجامعي مرغماً في الغرب أوفي دول الجوار.
الإخفاقات ومسارب الفساد
ما هولافت للانتباه أن جميع رؤساء الجامعات الذين انتقلوا من العام إلى الخاص، أدلوا بدلوهم في انتقاد عطالة المؤسسة التعليمية في الجامعات الحكومية، فها هورئيس جامعة دمشق في مقال له في دام بريس، بعد أن انتقل إلى الخاص، ينتقد الإجراءات التي اتخذت بشأن الدراسات العليا في زمن كان فيه مقرراً ومشاركاً بمثل هذه القرارات؟! شيء يدعوللحيرة!
إن ما يمكن أن نجزم به أنه ضمن أطر منظومة الإدارة الجامعية المعتمدة حتى الآن لم تستطع أية إدارة جامعية أن تحقق نقلة نوعية للارتقاء بجامعاتنا إلى المستوى الذي يليق بأبنائها، وما يؤكد هذه الرؤية التراجع الذي تشهده سورية على مستوى التنمية رغم كل ما يقال عن محاولات للإصلاح، فها هي سورية تتراجع في التقييم الإحصائي لمنظمة اليونسكوحول التنمية البشرية الذي يجري سنوياً على نحو187 دولة، من المرتبة 72 عام 1991 إلى المرتبة 119 عام 2011، أي بتراجع 47 موقع على الصعيد العالمي خلال عشرين عاماً، في عام 1990 كانت تسبقها إيران ويتبعها الصين واليوم تسبقها غوايانا وبوستوانا ويتبعها نامبيا. في حين تتقدم كوبا من المرتبة 62 إلى المرتبة 51 وإيران من 92 إلى 88 و(إسرائيل) من 21 إلى 17. فمن أين تأتي هذه العطالة في المؤسسة الجامعية،وما هي مسارب الفساد التي تنخر هذه المؤسسة التي قارب عمرها المئة عام؟
التعليم والهم المعيشي
أحد أهم هذه المسارب سيطرة الهاجس المالي والسعي لتحسين الوضع المعيشي لدى مختلف سويات الهيئة التدريسية، حالة مستدامة ساهمت بشكل جوهري في انخفاض الكفاءة العلمية وجودة الأداء التعليمي، كما أسست لمبررات التسرب وعدم الجدية والدفع بقضية البحث العلمي إلى المرتبة الأخيرة في سلم اهتمامات عضوالهيئة التدريسية وفي بعض الأحيان جعلها من المنسيات.
وإذا كانت هذه الظاهرة ذكورية بمجملها فإن فكرة الجمع بين المطبخ وتربية الأطفال والعمل الوظيفي أنثوية بامتياز، خيار دفع بكثيرات للعمل في الحقل التعليمي حيث المرونة بالتوقيت والدوام وتسخيف للمهام والواجبات العلمية.
ما عزز انسلاخ عضوالهيئة التدريسية عن المهام الأكاديمية والبحث العلمي انخراطه الواسع في»نظام العمل المهني» الذي وسعت آفاقة اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات (المرسوم رقم 250) حين اعتبرته حلقة أساسية من حلقات نشاط عضوالهيئة التدريسية، حيث ورد في المادة 54 أن للجامعة التعاقد من أجل تقديم الخبرة والمشورة الأكاديمية والتعاقد على إجراء البحوث والدراسات العلمية النوعية المتميزة وكذلك التدقيق العلمي المميز والتأهيل والتدريب، رغم أن هذه المادة لا تنسجم تماماً مع المادة 93-آ-1 من قانون تنظيم الجامعات.
نظام كان يفترض أن توضع ضوابطه ومعاييره بما يخدم الحركة العلمية والاستشارية، غير أن التعليمات التنفيذية لتطبيق أحكام قانون ممارسة المهنة، الصادرة بقرار من مجلس التعليم العالي والتي وضعت على قياس البعض، جاءت لتفتح الشهية نحوالمزيد من الكسب المادي، تشريعات ساهمت بشكل فعال في تنامي الفساد وتحول العلاقات الأكاديمية إلى علاقات مهنية بحتة قائمة على التسويق والتنافس المهني وقوانين العرض والطلب.