النماذج الضرورية في سورية...
يتم الحديث اليوم كثيراً عن اختناقات جهاز الدولة وعجزه في كثير من الأحيان عن التجاوب السريع مع الأزمات المتعددة التي مرّت وتمر بها البلاد، ولطالما تحدثنا أن النموذج الأهم والأجدى هو إشراك الناس في الرقابة والأداء وابتكار الحلول الخلاقة وتقييمها، أي إشراك الناس بشكل حقيقي في حل مشاكل حياتهم لأنهم- المواطنين- أصحاب المصلحة الأعلى وهم الأقدر على خلق الحلول وتطويرها.
قرية ملح في محافظة السويداء، تعتاد سكّانها 11 ألف نسمة، عانت في نهاية سنة 2011 من مشاكل كبيرة في آليات توزيع مادة المازوت خصوصاً، وفي انتخابات المجالس المحلية عمد أهالي القرية إلى الحوار مع المرشحين وطالبوهم ببرنامج عمل لحل المشاكل الأكثر أهمية، وعليه كان انتخاب مجلس القرية الذي عمد- حسب وعوده- إلى مراجعة كل أقسام الدور والجداول الخاصة بتوزيع مادة المازوت وقام بتنظيمها انطلاقاً من الأسماء التي حصلت حتى تاريخه على أقل كمية وصعوداً- هذا العمل وحده استغرق حوالي الأسبوعين من السهر حتى الساعة 12 ليلاً من كامل عناصر المجلس-، ثم تم اللقاء مع نحو الـ70 شخصاً يمثلون القرية في اجتماع للنقاش في النموذج الذي وضعه المجلس والكميات المقترح توزيعها في كل مرة – 200 ليتر لكل دفتر عائلة في كل مرة – بحيث يتم التوزيع إلى المنازل وليس بأن يقف الأهالي في طوابير الانتظار الطويل المذّل عند الكازية، وأيضاً شُكّلت لجان أحياء للإشراف على التوزيع مع لجان التوزيع المشكلة من الجهات الرسمية – هذه شُكلت في شهر شباط من سنة 2012 الأمر الذي يؤكد قدرة الناس على ابتداع أشكال الرقابة المجتمعية ناهيك عن أهمية إمكانية تنفيذها بفعالية عالية إذا أتيح للمجتمع أن يلعب دوره الحقيقي–، وبناءً على هذا الاجتماع تم إقرار آلية التوزيع وتبنيها من أهالي القرية جميعاً، لكن كانت المشكلة عندما جاء الصهريج أول مرة بعد الاجتماع فاحتشد أكثر من 200 من أهالي القريية مع «البيدونات» المقاومة للبرد، ورغم محاولات المكتب التنفيذي لإقناع الحشد بضرورة الالتزام بالآلية الموضوعة لكن أصر الناس تحت ضغط مخاوف البرد والشتاء على الحصول مباشرة على المازوت، عندها حضر رئيس البلدية الذي أخبر الأهالي أن المجلس لن يفعل إلا مايريده الناس، لكن الآلية المقررة للتوزيع هي ناتج عمل مضني وحقيقي لكادر المجلس وهذه الآلية تضمن حقوقهم وكرامتهم، وبعد الحوار في الطويل في موقع الكازية، تجاوب الأهالي و«وثقوا بنا رغم خوفهم من البرد ورغم أن حقهم غير واصل حتى حينه، هذه الثقة وهذه المسؤولية هي الحافز الحقيقي للعمل أياً كانت المصاعب...» هكذا علّق رئيس البلدية عند ذكره الحادثة...
هذا النموذج الإيجابي جداً تم الاستمرار في العمل وفقه مع تعديلات حسب الظرف، ففي فترة الحصاد والمواسم الزراعية كانت الأولوية للآليات الزراعية العاملة على مادة المازوت، وهنا أيضاً توجد تفاصيل مهمة في إدارة عملية التوزيع، لعل أهمها أن التوزيع كان إمّا على بيوت أصحاب الآليات، أو بتجميع كل الآليات في ساحة واسعة وخلال وقت محدد ليتم التوزيع على الجميع وبأسرع وقت، وكانت العملية على هذا النحو حفاظاً على كرامة المواطنين و وقتهم وتجنب الوقوف في الطوابير الطويلة وغيرها الكثير من الإختناقات والإشكالات التي لطالما عانى منها المواطن.
اليوم، يقول المكتب التنفيذي في المجلس إنه يعمل على إتمام توزيع البرميل الأول لجميع الأهالي قبل بدء الشتاء – تم توزيع ما يقارب الـ40% حتى الآن–، وأن المعوقات حتى الآن هي بشكل أساسي في الانقطاعات المفاجئة للمادة وتعارض ذلك مع اقتراب فصل الشتاء وضرورة تأمين المازوت للتدفئة لأن الشهرين الماضيين تحديداً كان التركيز على تأمين المادة للآليات الزراعية، مع ملاحظة أن التنسيق والتعاون مع المحافظة يتم حتى الآن بشكل جيد.
في أزمة الغاز التي مرّت بها معظم المحافظات والمدن لم يشعر أهالي قرية ملح بتلك الأزمة، إذ وجود آليات توزيع جاهزة وفعّالة، وتعاون وفعالية كامل الكادر في المجلس من رئيس المجلس إلى المكتب وحتى كل العاملين، وتفاهم المجلس مع موزعي الغاز في القرية حيث تم الاتفاق معهم على إبقاء 5 أسطوانات من كل 50 أسطوانة لاستخدامها في تعبئة الغازات الصغيرة وهي التي تشكل جانباً كبيراً من الربح للموزعين، على أن يتم التوزيع وفق الجداول الموضوعة وبوجود لجان التوزيع المكلفة من المجلس ولجان الأحيان المتفق عليه، مع إضافة آلية رقابة جديدة تم ابتكارها، حيث لا تسلّم مؤسسة المحروقات أية أسطوانة للموزع إذا لم يكن ختم المجلس وتوقيع رئيس لجنة التوزيع ورئيس المجلس على الجدول، أيضاً تم التعامل مع الحالة الخاصة التي يحصل فيها الموزع على كمية إضافية في أسبوع ما، حيث أصرّ المجلس على أن هذه الكمية الإضافية يحصل الموزع على نفس النسبة من الأسطوانات المتفق عليها ليستثمرها، أي من كل 50 أسطوانة 5 أسطوانات وذلك منعاً للتلاعب بأسعار الأسطوانات أو حصول البعض دون غيره على كميات أكبر من المادة، هذه الطريقة في المتابعة أربكت في بداية الأمر فرع المؤسسة العامة للمحروقات، لكن بعد أن ظهرت فعالية هذه الآلية تم التوجيه رسمياً من قبل المحافظة لكل البلديات باتباع هذه الطريقة في متابعة ورقابة عملية التوزيع.
لسنا هنا بصدد المديح الشخصي لكادر مجلس البلدية الذي هو أصلاً غير معني أبداً بهكذا مديح، وإنما نسلط الضوء على نموذج أصيل تم إنجازه نتيجة تفاعل المواطنين مع مصالحهم الحقيقية والأساسية ومتابعة أداء جهاز الحكومة الموجود أصلاً لخدمة الناس، مع وجود كادر نظيف وصاحب منهج علمي مبني على إيجاد الحلول الجذرية وليست الترقيعية، هذا الكادر أخذ المبادرة في التوجه للناس وحوارهم حول البرامج المطلوبة لتأمين المتطلبات الشعبية ومكاشفتهم بالعقبات الموجودة ومقترحات حلّها، هذا النموذج المطلوب اليوم في كل سورية المبني على فعالية الناس وتجاوب جهاز الدولة بكوادره صاحبة الخبرة والموثوقة من قبل الناس.