الشعب السوري (فاسد)!
يقول البعض بأن (الشعب السوري فاسد) ويتساءلون بهَمّ وكرب: (كيف ستنجح محاربة الفساد إن كنت تنزع فاسداً ليأتي فاسد آخر؟ وما من وجه أبيض إلا ويسودّ في دوامة العمل الإداري ومكاسبه؟).
بالفعل يكاد لا يستثنى أحد من الفساد في مجمل منظومة إدارة موارد جهاز الدولة، وفي منظومة العلاقات بين القطاع الخاص والخدمات العامة بالضرائب والرسوم بالرخص والموافقات والمخالفات والتعهدات والمراقبة وغيرها، ولكن علينا أن نفكر هل يعقل أن كل السوريين فاسدون بطباعهم، ونتاج أزمة أخلاقهم؟ أم أن كراسي المواقع التي تحوي الموارد وتوزعها مصممة لاستقبال (الرخوين)، بينما تلفظ كل من تسوّل له أخلاقه أن لا ينتمي لمنظومة الفساد؟! ورغم غرابة التوصيف إلا أن الاحتمال الثاني هو الأصح والأكثر منطقية..
الفساد الكبير والمركزي ينتج الصغير
فالفساد في سورية منظومة قوية ومركزية ومدارة بصرامة وحرفية وبكفاءات جيدة، تضمن استمرار وتوسع العملية منذ عقود، والتي ينتقل عبرها الجزء الأهم من موارد سورية إلى الجيوب الكبيرة، وفي طريق هذه الموارد إلى هذه الجيوب، يتم توزيع جزء على المساهمين في عملية الانتقال هذه على طول الخط، ليحصل أصحاب الكراسي الإدارية الكبيرة والمتوسطة على حصة جزاء أدائهم لوظيفتهم الأساسية في منظومة الفساد الاقتصادي، أي: مراقبة وتسيير عملية انتقال جزء هام من الموارد للفساد الكبير.
يقول البعض: بأن هذا الكلام غير منطقي، (فالفساد يعمم على صغار الموظفين وكبارهم)! وهذا أيضاً صحيح، ولكن فساد أصحاب الأجور في المواقع الإدارية الصغيرة، هو نتيجة للموارد المنتقلة للجيوب الكبيرة، وبالعمق عندما تعطيك المنظومة الاقتصادية أجراً لا يكفي لسد الرمق، فكأنها تقول لك بأن هذا الأجر رمزي، وعليك البحث عن الدخل الحقيقي وراء الأبواب المواربة وفي كواليس العمل النظامي لتستطيع أن تسد الرمق، فالموارد توزع في طرق الفساد الخلفية، وعليك أن تحيد عن الدرب الصحيح للنشاط الاقتصادي الشرعي، لتأخذ حصة وتحصل على دخل حقيقي يكفي لسد الحاجات.
الفساد درجات...
ونستطيع القول: بأن الفساد الكبير في سورية أيضاً مستويات: أولها وأقواها هو: القادرون على الحصول على حصة مباشرة من الموارد العامة، أي: حصة دون مواربة وحاجة للالتفاف من منابع الدخل الكبرى، كما في قطاع الطاقة، التجارة وغيرها. فعلى سبيل المثال: تبين أن الاستهلاك السوري من الوقود قبل الأزمة أضخم من الحاجات الوسطية الطبيعية لهذا العدد من السكان، ولهذا المستوى من النشاط الاقتصادي، والزيادة لا يمكن تفسيرها إلا بوجود حصة استيراد أو إنتاج مباشرة لقطاع المتاجرة وتهريب الوقود إلى خارج سورية، العملية التي تحتاج طبعاً إلى سلطات ومواقع تنفيذية عليا، لتكون (العين الغافلة) بما يتيح التسيير والتوزيع بين المتحاصصين الكبار، وينطبق هذا بطبيعة الحال على الحصة من التجارة الخارجية النظامية، أو التي كانت ولا تزال تمر تهريباً عبر البوابات الرسمية أو بوابات فرعية، فما دفعته السعودية دورياً خلال عقود مقابل غنم العواس المهرب، أو المواشي السورية عموماً، تعود حصة هامة منه للإدارة المنظمة (للعين الغافلة) ذاتها، وهلم جرّا من قصص يعرفها السوريون صغيرهم و كبيرهم. وهؤلاء ممن يحصلون على نسب هامة من الموارد العامة، هم ذاتهم يدفعون باتجاه الخصخصة، أي: عملية الاستلام المباشر للموارد والقطاعات الهامة من قبل رؤوس الأموال.
في المستوى الثاني، الذي لا يقل أهمية: هناك المستفيدون من إدارة الموارد التي تصل جهاز الدولة، فأيضاً أصحاب القرار الفصل يمارسون نشاطاً أساسياً، وهو الوكالة لدى شركات عالمية، ليحصلو على نسب ومكافآت لقاء سمسرتهم لها، فمثلاً: عندما يرسو عقد على شركة ألمانية لمعدات محطة كهرباء فإن الشركة تكافئ المساهمين في رسو العقد عليها، وعندما تحصل شركة تجارية على صفقة لتوريد القمح، أو السكر أو غيرها فإن لوكلائها الضامنين حصة هامة، ولذلك فإن السمة العامة لموارد الميزانية أو الموارد العامة: هي مال كثير وتكاليف كبيرة وإنجاز قليل، والفارق هو حصص الوكلاء من كبار الفاسدين.
وهناك أيضاً فساد قوى السوق الأخرى خارج جهاز الدولة، فعندما تستورد وتصدر بأسعار احتكارية ودون ضريبة ورسم يذكر، وعندما تنتج دواء دون مادة فعالة، وعندما تحصل على عقد تعهد وتتلاعب بالمواصفات، وغيرها من مجمل التفاصيل التي تسمح للسوق بتخفيض استثنائي للتكاليف، وزيادة المرابح مقابل حصة للعين الغافلة ذاتها.
أما المدراء وشخوص الحكومة، فهؤلاء يأتون في مرتبة أدنى، ومرابحهم ودخولهم نتيجة إما لمساهمتهم الإدارية في صفقات الفساد، أو نتيجة لما تسمح به مواقعهم والموارد الواقعة تحت إدارتهم من مناورات، كأن يقوم مدير أو وزير بتأجير عقار عام بسعر رمزي، مقابل حصة خاصة لقاء التسهيل، أو أن يباع جزء من المخزون في السوق، وغيرها من التجاوزات الصغيرة والكبيرة التي تؤمن لهؤلاء دخلاً، وسيرة ذاتية تتيح انتقالهم إلى الأعلى بالمستويات الإدارية، ليقتربوا من إدارة المواقع الحساسة حيث يجري مال أكثر وبمسؤولية أعلى، ولذلك لم يعد يستغرب السوريون تكرار ظاهرة أن هذا الإداري المحكوم بجرم مالي، قد انتزع من كرسي، ليتربع على آخر أعلى..
وبعد كل هذا كيف يحارب الفساد؟ وهل يمكن حلّه إدارياً؟ فالإدارة تدير الموارد، وقد تختلف كفاءات الإدارة، ولكن متانة فسادها تأتي من ملكية الثروة. فمعظم ثروات البلاد ومواردها ملك لكبار الفاسدين من أصحاب الثروة والمال والنفوذ،
ومن يملك يحكم...
بالتالي مهما بلغت أهمية إصلاح الإدارة ورفع كفاءتها، فلا يمكن النجاح إلا بعد إيقاف عملية توليد الفساد، أي: بقطع الشرش المغذي للخزائن والحسابات الكبرى، هذا الضخ الآتي من النفوذ والقوة، ولا يتوقف إلا بنفوذ وقوة مماثلة لغالبية السوريين المغيبة مصالحهم عن ساحة المصالح الاقتصادية السورية، لأكثر من 80% من أصحاب الأجور وأسرهم، وأكثر من 90% من أصحاب الدخل الصغير والمنتجين الذين يحصلون بأحسن الأحوال على 20% فقط من الدخل المنتج في سورية، والـ 80% الباقية توزع على قلة كبار قوى الفساد والسوق، وعلى أزلامهم وموظفيهم الكبار.