المرصد العمالي يقلل تكاليف المعيشة؟!
قدم المرصد العمالي للدراسات والبحوث مذكرة إلى رئاسة الحكومة توصّف الوضع المعيشي للأسرة السورية، المذكرة التي تعتبر باكورة أعمال المرصد، تضمنت أيضاً اقتراحات لحلول على المستوى الإسعافي والمستوى القصير والمتوسط الأجل.
حسب المرصد فإن الفجوة الكبيرة بين الإنفاق وبين الدخل من الرواتب والأجور، أدت إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتدهور، كما أن الأزمة أدت إلى انزياح سكاني واقتصادي في الخارطة السورية، مما يشكل تحدياً جوهرياً أمام الحكومة.
محرر الشؤون الاقتصادية
المرصد الذي ينطلق في معالجته للمشكلة الاقتصادية المتمثلة بالفارق بين تكاليف المعيشة والأجور، ينتقل إلى الحلول من النقطة ذاتها مطالباً بزيادة الأجور والإنتاج، وفي هذا قول حق، ولكننا نستطيع في مناقشتنا لما نشر من دراسة المرصد العمالي أن نطرح بعض الأسئلة ونناقش بعض الطروحات الأساسية..
الأسعار ارتفعت 12 مرة وتكاليف المعيشة لم ترافقها؟!
في توصيف الواقع وحسب المرصد، إن تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أشخاص في الربع الأول من عام 2017 بلغت أكثر من 230 ألف ليرة شهرياً، أي: حوالي 7 أضعاف متوسط دخل الفرد الواحد البالغ 33 ألف ليرة، وإذا اعتبرنا وجود معيلين في الأسرة الواحدة فإن تكاليف معيشة الأسرة تعادل أربعة أو خمسة أضعاف متوسط دخل الأسرة. وينبغي التنويه أن هذا التقدير لتكاليف المعيشة يعتبر منخفضاً بالقياس إلى محاولات التقدير الأخرى، فعلى سبيل المثال وفق مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة، إن تكاليف المعيشة لأسرة في دمشق قد بلغت في الربع الأول من عام 2017حوالي 317 ألف ليرة، أي بفارق 87 ألف ليرة عن حسابات المرصد! ولكن الأهم أنّ رقم تكاليف المعيشة الذي قدره المرصد لأسرة خلال شهر، متناقض مع النسبة الكبيرة المقدرة لارتفاع الأسعار، فبحسب المذكرة فإن الأسعار ارتفعت بمعدل 1200% تقريباً عن عام 2010، ونسبة التضخم هذه هي ضعف آخر رقم تضخم رسمي منشور عن آب 2016، والبالغ 679.6%، ولذلك ينبغي السؤال، كيف يكون رقم التضخم مرتفعاً لهذا الحد وبالمقابل تكاليف المعيشة لم ترتفع بنسبة قريبة أو مرافقة، فبناء على ارتفاع الأسعار 12 ضعفٍ تقريباً الذي وضعه المرصد فإن تكاليف المعيشة يفترض أن تنتقل من 30 ألف ليرة شهرياً في عام 2010 وصولاً إلى 360 ألف ليرة!
إيرادات ضرائب الأرباح أقل بـ 87%
يحاول المرصد العمالي أن يقارب مسألة الأرباح، وهي مقاربة نستطيع القول: أنها «محقة ولكن ناعمة»، حيث ركز البحث على مسألة ضرائب الأرباح، مشيراً إلى أنه رغم تضخم الأسعار الحاصل اليوم مقارنة مع عام 2010 فإن الحكومة خفضت من خطتها لتحصيل ضريبة الأرباح الحقيقية من إجمالي ايرادات الموازنة من 19.2% عام 2010 إلى 2.4% عام 2017 أي أن نسبة الضرائب من الإيرادات في الموازنة انخفضت بنسبة 87.5%، كذلك الأمر بالنسبة للرسوم الجمركية التي انخفضت من 3.7% عام 2010 إلى 2.5% عام 2017.
وينبغي أن نذكر هنا: أن المسألة أبعد من موضوع ضرائب الأرباح التي فعلياً لا تسعى الحكومة جدياً لتحصيلها، والدليل الأبرز هو: إعفاءات بنسبة تفوق 90% من أرباح المصارف من الضريبة واعتبارها غير محصلة!
المسألة تتعلق بحصة الأرباح من الناتج، والتي بأبسط التقديرات قد قاربت 87%، أي: أن الأجور لا تحصل إلا على 13% تقريباً من الدخل القليل المنتج في سورية اليوم، وكان من المفترض أن يناقش المرصد المعني بشؤون العمال، السياسات جميعها التي عززت ودعمت الوصول إلى هذه الكوارث الاقتصادية- الاجتماعية الكبيرة، وليس فقط الإشارة إلى المفارقات الحكومية الصارخة مثل: تجاهل التهرب الضريبي الكبير في سورية، وتخفيض الرسوم!
أما حصة الفساد من الربح ومن الناتج لم تحصل حتى على إشارة جدية من تقرير المرصد...
زيادة الأجور 100%
في إطار البحث عن حلول للوضع القائم، ركزت المذكرة على المعالجة وفق مستويين: الأول إسعافي والثاني قصير ومتوسط الأجل.
فإسعافياً: ينبغي زيادة الرواتب والأجور، أما في الأجل القصير والمتوسط فينبغي التركيز على الإنتاج والتشغيل.
ويشير التقرير إلى أنه يجب (زيادة الرواتب والأجور بالارتباط مع الإنتاجية)، أي زيادة الراتب المقطوع بنسبة 100% ليصبح متوسط دخل الفرد 66 ألف ليرة، أي بفارق يصل إلى 164 ألف ليرة عن متوسط تكاليف المعيشة المحسوبة من قبل المرصد، وتعديل التعويضات من مبالغ ثابتة إلى نسبة من الراتب المقطوع، ورفع الحد الأدنى المعفى من ضريبة الرواتب والأجور إلى 30 ألف ليرة، بالإضافة إلى ضبط الأسعار ومعالجة مشكلة احتكار القلة للسلع، وضرورة ممارسة مؤسسات التدخل الإيجابي لدورها...
وفي تفاصيل الحلول المطروحة لزيادة الإنتاج والتشغيل على المدى القصير والمتوسط الأجل فإنها تتضمن على سبيل المثال: إنشاء تجمع صناعات صغيرة مجهزة ببنية تحتية وقريبة من مركز مدينة كل محافظة آمنة ، ومنح القروض التشغيلية لمنشآت الصناعات الزراعية بالإضافة إلى دعم أسعار الطاقة للمنتجين بهدف تخفيض تكاليف النقل والإنتاج، وإنشاء صناعات طاقة متجددة بهدف تخفيض فاتورة استيراد المشتقات النفطية، والدعوة إلى إصلاح القطاع العام بجدية، وإصلاحات ضريبية، وفرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع الكمالية، ودعم قطاع الإسكان للمساهمة في الحد من ارتفاع أسعار السكن.
أما حين يحاول التقرير أن يجيب عن كيفية تأمين التمويل لهذه الخطوات، مستبقاً الذريعة الحكومية الدائمة بنقص التمويل، فتظهر مشكلة أخرى...
«موضة» التمويل عبر الدين!
يشير المرصد إلى أن زيادة الرواتب والأجور بنسبة 100% كحلٍ إسعافي تحتاج إلى كتلة نقدية لا تتجاوز 240 مليار ليرة حسب المذكرة، ولكن كيف يمكن تأمين التمويل اللازم؟
تقترح المذكرة لتمويل متطلبات الحلول المقترحة على المستويين من خلال الإصدار النقدي والتمويل بالعجز، أي: أن تصدر الحكومة سندات دين عام لتقترض مبلغ مليار دولار مثلاً بمعدل فائدة 4-5% سنوياً أو اقتراض ألف مليار ليرة مثلاَ بفائدة 12-15% سنوياً، وتشير لاحقاً إلى طرق تمويل أخرى مثل معالجة مشكلة التهرب الضريبي وتسوية مخالفات البناء.
إن كان العمال في أبحاثهم يدعون الحكومة إلى الحصول على تمويل من السوق، كيف يتوقعون أن تكون هذه الأموال متاحة لزيادة أجورهم؟! فالمال الآتي بالدين من السوق، إن أتى، فإنه سيذهب لمصلحة قوى السوق، أي لمصلحة الأرباح. وإن كانت عجلة زيادة الأجور وزيادة الإنتاج والتشغيل ستنتظر أن تنجح الحكومة بإقناع السوق بإقراضها الأموال، فإن هذه العجلة لن تدور على الأقل في الوقت الراهن...
وكنا في قاسيون قد ناقشنا سابقاً مدى جدية الطرح الذي يتكرر اليوم حول استدانة الحكومة عبر سندات الخزينة واستخدام «المليار دولار» الموعودة في الإنفاق العام أجوراً وإنتاجاً وغيرها، لنشير بأن هذه الأموال لن تقدمها السوق إلا بشروط وظروف مختلفة وهي أن تستقر قيمة الليرة وسعر الصرف تماماً وأن يرتفع سعر الفائدة إلى مستوى أعلى من معدل الربح في السوق، بل وفي شروط سياسية واقتصادية أخرى، فإن كان المرصد يريد أن تكون اقتراحاته رجع صدى لما يتردد أكاديمياً فإنه هدفه الأساسي في زيادة الرواتب والأجور ولو بكتلة 240 مليار ليرة فقط لن يكون قابلاً للتحقيق..
* عندما يتم الربط بين زيادة الأجور والتمويل بالدين، فإن هذا يخفف من قوة المطالبة بزيادة الأجور، وكأنها ليست حقاً ضرورياً ومُلحاً!
عمال سورية ينتجون ما تبقى من إنتاجها الاقتصادي في الظروف الحالية، وقوى السوق تغنمه بسهولة حتى دون ضريبة، فهل من المنطقي ان يطالب العمال بزيادة أجور بالدين من هؤلاء مع وعود بمعدلات فائدة مجزية لهم؟! طريق وحيد جدي لسد الفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة وهو: إعادة توزيع الدخل من الأرباح للأجور، وهذا الهدف له طرق وسياسات وأدوات متنوعة، إلّا أن تمويل الأجور عبر الدين من السوق هو خطوة في الطريق المعاكس، وتخدم بالمحصلة الأرباح لا الأجور...