«الفضاء الافتراضي» يرسم وطناً يجمع السوريين: تواصل وحنين وأمل بالعودة إلى الوطن
بالون «الأزرق» فتح أبوابه أمام السوريين قبل 2011. ولم يكن بحسبان «مارك زوكربيرغ» مخترع أشهر موقع تواصل اجتماعي أن السوريين سيتخذون وبسبب الحرب الدائرة على أرضهم من «الفيس بوك» وطناً افتراضياً يفرحون ويحزنون ويجتمعون ويفترقون على صفحاته، ويتخذون من حيطانه شرفات يعبّرون من خلالها عما يحدث لهم بعد أن باتوا عاجزين عن ذلك على أرض الواقع.
اتخذ عدد من الدول التي شهدت أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي» قراراً بحجب موقع التواصل الاجتماعي «الفيس بوك»، والذي يدعي البعض أنه ساهم في انتشار ظاهرة «الربيع العربي» وتداعياتها الكارثية على شعوب المنطقة.
«هنا دمشق»..
صحيح أن خدمة «الفيس بوك» أو أي من تلك المواقع التي تـُستخدم على نطاق واسع في مجال التواصل، لم تحجب عن سورية لكن خدمة الانترنت حجبت عن سورية كلها أكثر من مرة. وفي كل مرة كان يوحد معظم السوريين في جميع أنحاء العالم منشوراتهم ليقولوا «هنا دمشق»، في محاولة منهم للتأكيد على أن مدينتهم مازالت حاضرة في العالم الافتراضي كما أرض الواقع وإن غيّرت الأحداث الكثير من جغرافيتها.
وفي هذا السياق يقول «معاذ.ن»، مغترب سوري يقيم في ألمانيا، «غادرت سورية قبل عامين لكني أعيش مع أهلي كل يوم بيومه بكامل تفاصيله من خلال اتصالي الدائم بهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أتبادل الصور معهم والأصوات كي يبقى قلبي مطمئناً على وضعهم هناك».
ويتابع «أصعب اللحظات التي أعيشها هي عندما ترد أخبار وقوع معارك أو اشتباكات أو سقوط قذائف بالقرب من أماكن إقامتهم ولا يوجد شبكة اتصال أو انترنت».
يجمع ويفرّق
توحيد البروفايلات (الصورة الشخصية على صفحة الفيس بوك) كان يتم على نطاق واسع مع كل حدث طارئ كان يقع في سورية. وهنا سنجد أن الآراء السياسية قد تتلاشى أمام الهم الإنساني، فالجميع يذكر كيف توحّدت الصور والآراء لعدد كبير من السوريين عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية توجيه ضربة جوية لسورية.
وعن ذلك تحدثت «سمر.و» قائلة «أنا لا أخفي أرائي السياسية وأنشرها على صفحتي بشكل مستمر، لكنني أجد نفسي عاجزة أمام الأحداث الكبيرة التي أودت بحياة الكثير من السوريين، فهنا لا يوجد برأيي ما يبرر العداء فنحن في النهاية سوريون مهما اختلفنا في الآراء السياسية».
مصادر.. أخبار متعددة
عانى السوريون مع بداية تفجّر الأحداث في سورية من تأخر أداء وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية في مواكبة الحدث وعدم تناوله بالطريقة الصحيحة، مما دفع بعدد من «الناشطين» إلى إنشاء مواقع وصفحات ينشرون من خلالها مشاركاتهم وآراءهم في تناول الأحداث التي تجري كل في منطقته ولكن حسب منطقه؛ حيث نشط المناصرون للمجموعات المسلحة عبر صفحات سميت بـ«التنسيقية»، فيما أحدث المؤيدين للحكومة السورية صفحات سميت بـ«شبكات الأخبار».
وأصبح زوار هذه الصفحات بمئات الآلاف، حيث يحصلون على أخبار مناطقهم دون الرجوع إلى وسائل الإعلام الرسمية، كما اتخذ عدد كبير من وسائل الإعلام الخارجي هذه الصفحات كمرجع أساسي لعملهم «مصادر معلومات» من حيث نقل ما يحدث في سورية سواء في أماكن حدوث المعارك أو في تداعياتها دون التأكد من مصداقيتها.
وعن ذلك يقول «مالك.س»، مشرف تنسيقية على موقع الفيس بوك (أدمن)، «أقوم مع عدد من الناشطين بتوثيق ما يحدث من معارك وعدد الضحايا ونشرها عبر صفحتنا، التي يتابعها عدد هائل من الناس سواء كانوا داخل سورية أو خارجها»، ويضيف «نحن لدينا أشخاص متواجدون ضمن المعارك، ويقومون بتزويدنا بالأحداث أول بأول».
في حين يقول «أغيد.ن»، مشرف في إحدى صفحات شبكات الأخبار، «أقوم مع عدد من أصدقائي الناشطين بتتبع أخبار منطقتنا، ونشرها أول بأول على صفحتنا»، ويضيف «بالنسبة للمعارك وما يحدث فنحن لدينا عدد من الأصدقاء الذين يقاتلون ويقومون بتزويدنا بالأخبار الحقيقية وبات يوجد لنا جمهور كبير يتابع أخبارنا ويثق بنا».
صفحات بديلة
لا يمكن الحكم على مدى مصداقية ما تتناوله هذه الصفحات من أخبار بسبب مرجعيتها، حيث أثبتت المتابعة المستمرة لمنشورات هذه الصفحات أن كليهما يقومان بنشر أخبار غير صحيحة إما من أجل رفع معنويات مناصريهم أو من أجل التمويه عن الأحداث الحقيقية التي تحدث على أرض الواقع.
لذلك قرر عدد من الناشطين إنشاء صفحة يقولون إنها «صفحة متخصصة لأخبار سقوط قذائف الهاون اليومية على العاصمة دمشق دون الانحياز لأي طرف كان». ويتابعون «مهمتنا نشر أخبار الهاون ليس إلا، ونعمل على توثيق عدد القذائف التي تسقط يومياً وشهرياً على العاصمة».
باص «جنيف» والمساحة الحرة
أوجد «الفيس بوك» مساحة حرة للكثيرين، حاولوا من خلال هذه المساحة التعبير عن أهوائهم وآرائهم، وقد أجاد البعض استخدام هذه المساحة والبعض الآخر لم تتعد القصة بالنسبة لهم أكثر من أنها وسيلة جديدة للتعارف والحديث مع الجنس الآخر. فيما أنشأ البعض صفحات تناولوا من خلالها الأحداث السياسية بروح «الدعابة»؛ فعند عقد مؤتمر «جنيف» وجد الكثيرون أنهم لا يمتلكون وسيلة توصل صوتهم سوى صفحات «الفيس بوك»، فأنشؤوا صفحة وجهوا من خلالها الدعوة لمن يرغب بحضور «جنيف» على أن تكون وسيلة النقل المعتمدة حافلة كبيرة من النوع القديم الذي كان يستخدمه السوريون في تنقلاتهم بين القرى والمدن في تندر منهم على الوفود التي شاركت وعلى الأماكن الفخمة التي أقاموا فيها مع إيمان من أنشأ الصفحة أن المجتمعين الحقيقيين في «جنيف» لن يخرجوا بالنتائج التي يرجوها السوريون.
وطبعاً لم ينج «بان كي مون» من تندر السوريين على مواقفه وكذلك المبعوث العربي والدولي السابق «الأخضر الإبراهيمي» الذي كان له نصيب كبير هو الآخر، إلى أن أتى تنظيم «داعش» الإرهابي، وبات الشاغل الأكبر للسوريين الذين رفضوا منهج هذه المجموعات وممارساتها الفاشية مع السوريين فباتوا ينتقدون تصرفاته وفتاواه عبر رسوم كاريكاتورية ساخرة وناقدة.
الحنين لـ«الزمن الجميل»!
الحنين إلى سورية ومدنها وشوارعها وياسمينها هو ما يوحد السوريين على اختلاف آرائهم وتوجهاتهم ومشاربهم. لذلك تجدهم ينشطون عند وقوع حدث ما سواء أكان مفرحاً هذا الحدث أو كان حزيناً، ويقومون بنشر صور لمدنهم وقراهم وشوارعهم علهم يشمون رائحة وطنهم من خلال استرجاعهم لهذه الذكريات.
ومن هنا أتت فكرة عدد كبير من الصفحات التي تعمل على نشر الصور والفيديوهات للمدن السورية قبل 2011 في محاولة لاسترجاع «الزمن الجميل» المفقود بحسب المتابعين لهذه الصفحات، وخاصة من المغتربين، الذين يقولون «إنهم يجدون فسحة من الأمل بالعودة إلى سورية الجميلة يوماً ما».
ضرورة وليس رفاهية
يعتبر الكثير من السوريين الذين يملكون حساباً ما على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي أن «وجودهم الافتراضي» في هذا الفضاء الالكتروني هو ضرورة وليس رفاهية حيث خففت هذه المواقع الكثير من الأعباء التي كانت تثقل كاهل السوريين سواء كانت نفسية من ناحية الاطمئنان على الأهل أو من الناحية المادية، حيث تعتبر هذه الوسائل ذات تكلفة منخفضة مقارنة باستخدام الاتصال العادي لو أنها غير موجودة.
الحديث عن مواقع التواصل الاجتماعي بكل أشكالها ليس محاولة لمدحها بقدر ما هو نقل لواقع يعيشه الكثير من السوريين الذين يحاولون تجاوز جراحهم. ربما لم يكن ليشهد «الفيس بوك» وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي الرواج الذي لاقاه عند السوريين لو أن حياتهم لم تتغير بعد 2011، لكنه بات اليوم عند الكثيرين ضرورياً للتواصل على أمل أن يعودوا ويعيشوا حياتهم الواقعية بعيداً عن الفضاء الافتراضي.