من تحت الدلف إلى تحت المزراب
منذ أن بدأ التقنين الكهربائي في سورية، ذو الأسباب غير المعروفة حتى الآن؛ (أهو بسبب عدم مقدرة إيصال مادة الفيول إلى محطات التوليد، أم بسبب تخريب المجموعات المسلحة لشبكات نقل وتوزيع الطاقة واستهداف محطات التحويل، أم لسبب يجب أن يبقى سراً إلى أن تكشف عنه القادمات من الأيام..) وأنا أفكّر بطريقة خلال فترة انقطاع التيار الكهربائي أتخلّص بموجبها من حرارة البيت في هذا الصيف القائظ، بسبب توقّف الأجهزة الكهربائية المعنية بطرد (الشوب) من بيتنا. جرّبت الاستلقاء على البلاط وأنا شبه عار، البقاء في الحمّام أرشرش جسمي بالماء، استخدام المراوح اليدوية..
إلا أن كل هذه الأساليب لم تفلح.. إلى أن لاحظتُ بأن (المول) القريب من موطني لديه مجموعة توليد يتم تشغيلها أثناء انقطاع التيار الكهربائي. فتعمل بدورها المكيّفات وبالتالي تبقى أجواء المول باردة منعشة. ما جعلني أزامن تسوّقي من المول أثناء فترة التقنين. وبالفعل، أصبحت يومياً وخلال أسوأ فترة للتقنين (من الواحدة ظهراً وحتى الرابعة) أتواجد في هذا الملاذ مستمتعاً بأجوائه اللذيذة الساحرة. أتجوّل في كل أقسامه متمهلاً مراقباً متفحّصاً.. حتى غدوتُ ملمّاً بمعرفة أدقّ التفاصيل وفي جميع الأقسام، من حيث أنواع السلع والأسعار والزبائن.. ملهّياً نفسي بأيّ شيء؛ فإذا صادفتُ شخصاً أعرفه مثلاً، أتعمّد التحدّث معه بأيّ موضوع لإطالة فترة مكوثي إلى أن تنتهي ساعات التقنين المريرة.
ولما كنت أنانياً، فقد حرصت ألا أخبر أحداً من معارفي بهذا التحايل اليومي، واعتمدتُ السرية المطلقة في لجوئي إلى هذا الحلّ في معالجة مشكلة انقطاع الكهرباء عن بيتي. معتبراً نفسي أحد أذكى المخلوقات في حيّنا لاكتشافي هذا الحلّ السحري. إلا أنني للأسف لم أنعم طويلاً بهذا الوضع المريح. فقد لفت انتباهي زيادة توافد المرتادين إلى المول يوماً بعد آخر وبأعدادٍ غفيرة خلال فترة انقطاع الكهرباء. وكأنني اتصلت بجميع سكان الحيّ وألححتُ عليهم ورجوتهم بتوسّل أن يشاركوني متعتي في هذا المكان وفي مثل هذا الوقت.. وأضحى من المشاهدات المألوفة أن ترى عدداً من الطلاب يتمشّون في بهو بعض الأقسام يقرؤون محاضرات جامعية. أو سيدة تدخِل عربة طفلها إلى زاوية أحد الأقسام وتستخرج من حقيبتها (ببرونة مليئة بالحليب) وتلقّمه لطفلها. وسيدة أخرى تقوم بتغيير حفّاضة ابنها وهي تدندن بأغنية وكأنها في بيتها، ثم تتبختر في أقسام المول وهي تجرّ العربة بهدوء ومتعة.. ورجلٌ تعمشقت طفلته على رقبته يمشي بأناة إلى جانب زوجته وباقي أولاده وهم يلتهمون السندويش.. حتى بات المكان وكأنه حديقة عامة يؤمّها مختلف شرائح المجتمع.
المشرفون على خدمة الزبائن، الحائرون والعاجزون عن تفسير سرّ هذا الاكتظاظ البشري في مثل هذا الوقت من كل يوم، أصبحوا بمثابة الأصدقاء لي؛ ألقي عليهم التحية وأتبادل معهم أطراف الحديث، ونتطرّق إلى مواضيع الساعة بمختلف جوانبها وخاصةً السياسية منها.
مضت الأيام والأسابيع وأنا على هذه الحال من التواجد اليومي في المول ولمدة ثلاث ساعات بالتمام والكمال. وأصبح المكان مع مرور الوقت يغصّ بالزبائن ولم يعد يتّسع لموطئ قدم، لدرجة أن المكيفات لم تعد تستطيع تبريد المكان كما ينبغي. ومع ذلك فإن هذا المكان المزدحم على علاته، أرحم بما لا يقاس من جحيم البيت.
وما إن تنتهي فترة التقنين حتى يهرع كل من في المول من الزبائن بالتراكض متدافعين إلى الخارج. وكأنهم في ملعب لكرة القدم وقد أطلق حكم المباراة صافرة الختام.. لتفرغ بعدها صالات البيع إلا من عددٍ محدودٍٍ يُعَدّون على أصابع اليدين على الأكثر.
وفي أحد الأيام وبينما كنت أتمشّى كعادتي بهدوء، شعرتُ فجأةً بألمٍ فظيع في باطن الساقين وفي أسفل القدمين. لدرجة اضطررت إلى الاستعانة ببعض الزبائن حتى تمكنت من الخروج. ولدى قدوم أول سيارة أجرة طلبتُ من سائقها نقلي إلى المشفى الوطني. وبعد إجراء الفحوصات سألني الطبيب: كأنك تعمل في مهنة تتطلّب منك الوقوف طويلاً.. هل تعمل حضرتك حلاقاً أم بائعاً متجولاً أم..؟ أجبته مندهشاً بالنفي! أخبرني الطبيب بأن سبب الألم يعود إلى انتشار الدوالي في الساقين. بالإضافة إلى انقراص شديد في فقرات الرقبة والعمود الفقري. وإن الوقوف المديد أو السير البطيء ولمدة طويلة.. ألدّ أعداء هذا المرض. وطلب مني الامتناع كلياً عن كل ما يحرّض الدوالي على الانتفاخ وبالتالي الألم الشديد. ونصحني بإجراء عملية جراحية على وجه السرعة للتخلّص من الدوالي ومن الانقراص.. قبل أن يستفحل الخطر ونضطر إلى ما لا تحمد عقباه..! وبينما كنا نتحدّث عن المرض وعن الطرق العلاجية البديلة للعمل الجراحي وإذ بالتيار الكهربائي ينقطع! وأظلمت غرفة المعاينة..! طمأنني الطبيب قائلاً: لا تخف.. لدينا مجموعة توليد ستقلع في عملها ذاتياً.. وابتسم مضيفاً: عُدّ للعشرة وسوف تأتي الكهرباء.. وبدأ يعدّ مبتسماً: واحد، اثنان.. وبالفعل قبل أن يصل إلى العشرة أضاءت اللمبات في الغرفة واشتغل المكيّف. وبحركة لا إرادية نهضت عن سرير المعاينة وبدأت أتمشّى في الغرفة وكأنني في المول. وطفقتُ أراقب متفحصاً المعدّات الطبية والأدوية المرتبة بعناية في خزنة الصيدلية، والصور الإعلانية عن تشريح الجسم البشري.. وسط ذهول الطبيب. وسرعان ما اشرأبّ الألم من جديد. فأطلقتُ صوتاً مسربلاً بالوجع، وتمنّيت أن تقطع الكهرباء مجدداً وأعود إلى البيت لأستلقي على البلاط عارياً أرشرش جسمي بالماء وأستخدم مروحة يدوية..