عملاقٌ عسكريٌّ على أقدامٍ من طين
أعلن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، في تصريحٍ مؤخَّراً، أنَّ «إسرائيل تُعَدُّ القوَّة الأكبر في الشرق الأوسط»، وأنَّها «غيَّرت ميزان القوى بشكلٍ كاملٍ في المنطقة». لكنَّ تتبُّع خطابه على مدى الأشهر الماضية يكشف تراجعاً ملحوظاً في نبرة التفاخر، فمن الحديث عن «تغيير وجه الشرق الأوسط» إلى الاكتفاء بالحديث عن «تغيير ميزان القوى»، هو تراجعٌ يعكس واقعاً أكثر قتامةً يواجهه الكيان، إذ تتآكل شرعيَّته الدوليَّة، ويواجه تحالفاتٍ إقليميَّةً وعالميَّةً غير مسبوقةٍ، ناهيك عن فشله في تحقيق أيٍّ من أهدافه السياسيَّة أو العسكريَّة المعلنة في غزة.
فانتقاله من «تغيير الوجه» إلى «تغيير الميزان»، كان التفافاً على الوعي في الداخل الإسرائيليِّ، ومناورةً للتغطية على تحوُّلٍ في المصطلحات يعكس إدراكاً متزايداً بأنَّ طموح التغيير الجيوسياسيِّ يصطدم بمعوِّقاتٍ بنيويَّةٍ وسياسيَّةٍ عميقة، ولا يعدو كونه محاولةً يائسةً لتعويم مشروعٍ يواجه أزمةً وجوديَّة.
بين خطاب التفوُّق والواقع المترهل
في الوقت الذي يدَّعي الخطاب الإسرائيليُّ الرسميُّ أنَّ إسرائيل أصبحت القوَّة الأكبر في المنطقة، انبرى محلِّلون إسرائيليِّون للتشكيك بهذا الادعاء، محذِّرين من عواقبه، فالواقع الفعليُّ يناقض ذلك.
فوفقاً لبحثٍ منشورٍ في موقع أبحاث الأمن القوميِّ «الإسرائيليِّ» لـ«جاي حازوت»، يرى أنَّ «إسرائيل» في هذه الحرب «وجدت نفسها في مأزقٍ تكتيكيٍّ ومنهجيٍّ واستراتيجيٍّ عرَّض جيشها لضرباتٍ موجعةٍ، وهو ما عُدَّ أخطر فشلٍ في تاريخه، فاقداً الكفاءة والتنظيم اللازمين لمواجهة حربٍ متعدِّدة القطاعات في آنٍ واحد»، وهو ما تسبَّب على حدِّ تعبيره في «تضرُّر ردع (إسرائيل) وصورتها ومكانتها بشدَّةٍ في الشرق الأوسط والعالم، وانهيار الجدار الحديديِّ الذي استند إليه مفهوم الأمن القوميِّ الإسرائيليِّ»، في الوقت الذي «يتعلَّم أعداء (إسرائيل) من إخفاقاتهم ويخطِّطون للانتقام»، تستمرُّ حكومة نتنياهو في «ازدراء العدو، رغم أنَّ حماس خطَّطت ونفَّذت خطَّةً عسكريَّةً بارعةً».
فـ«حماس لم تُهزَم عسكريّاً، وفي حرب الاستنزاف التي تطوَّرت في غزة، من خلال الأنفاق وحرب العصابات، تمكَّنت من انتزاع ثمنٍ باهظٍ» من الجيش «الإسرائيليِّ»، ما «تسبَّب في أخطر الأضرار الدوليَّة لصورة (إسرائيل) في تاريخها»، مؤكِّداً «أنَّ المخاطر الكامنة في استمرار الحرب في غزة كثيرةٌ - على صورة (إسرائيل) واليهود في العالم، وعلى حياة المختطفين من حماس، وعلى الجيش (الإسرائيليِّ)، وعلى المجتمع (الإسرائيليِّ)».
وقت وجَّه الكاتب نقداً مباشراً للعقليَّة العسكريَّة التي أدارت الحرب، إذ «ترتكز عقيدة الحرب على ركائز عدَّةٍ، اثنتان منها -الإنسان والوقت- تآكلتا تماماً بفعل الحرب»، فمن وجهة نظر الكاتب تبنَّت قيادة الجيش سياسة المستوى السياسيِّ، وتخطيطهم وقيادتهم لحملةٍ ناقضت عقيدة الحرب، دون مراعاة البعد الزمنيِّ، فعنصر الوقت هو الأهمُّ -وفق مبادئ الحرب الاستراتيجيَّة التي أرساها بن غوريون- فالحروب القصيرة تؤمِّن من الاستنزاف في الموارد البشريَّة والماديَّة المحدودة في الكيان، وتجاهل هذه الحقيقة سيكون مدمِّراً لتفوُّقها وسمعتها وصورتها، ما ينذر بتنامي العداء والمقاطعة لـ«إسرائيل» واليهود في العالم.
محدوديَّة القدرة رغم التفوِّق العسكريِّ
أكَّد الكاتب «إفريم عنبار» في حديثه لقناة «نيوز 12» العبريَّة، «(إسرائيل) ليست قوَّةً إقليميَّةً، ولا يمكنها تغيير خريطة الشرق الأوسط» موضحاً الفرق بين إنجازٍ عسكريٍّ هنا وهناك وحرب غزة، فهي نشوةٌ لا تعدو كونها أوهاماً مبالغاً فيها، وسوء فهمٍ للواقع. وأضاف: «غزة... هي التي ستحدِّد في النهاية صورة النصر أو الهزيمة»، فحماس ما زالت تشكِّل خطراً ولم تستطع «إسرائيل» بترسانتها القضاء عليها وإن استطاعت ضرب قياداتها.
وهو ما ناقشه «جاي حازوت» مطوَّلاً، «إنَّ استنزاف وحدات الجيش (الإسرائيليِّ) في الحرب سرٌّ مكشوفٌ للجميع»، سارداً مشكلاتٍ حاليَّةً عدَّة تجلَّت في: الحوادث العمليَّاتيَّة، وضعف الانضباط العمليَّاتي وصلاحيَّة الأسلحة، وأزمة القوى العاملة في القوَّات النظاميَّة والاحتياطيَّة، وتكاليف مستقبليَّة: مثل تفاقم أزمة القوى العاملة، والتغيُّب الجماعيِّ عن الاحتياط، ورفض الوحدات النظاميَّة، وعدم جاهزيَّة الوحدات للحرب، والأزمة الحادَّة في العلاقات بين الجيش والمجتمع، كلُّ هذه مجرَّد أمثلةٍ على عمليَّةٍ قد تؤدِّي إلى تفكيك الجيش، وهو يضرب مقولة «القوة الإقليميَّة» في صميمها، مضيفاً أنَّ دولةً مثل الكيان «لا تستطيع تحمُّل استمرار استنزاف جيشها واقتصادها ومجتمعها في حرب استنزافٍ لا تنتهي في قطاع غزة»، بينما يخطِّط أعداؤها للانتقام.
دروس غزة القاسية
ولم يغفل «جاي حازوت» عرض الدروس التي تعلَّمها «أعداء إسرائيل» على المستوى الاستراتيجيِّ والعسكريِّ، الذي كشف عجز الكيان رغم تفوُّقه المزعوم، إذ استطاعت المقاومة امتلاك عنصر المفاجأة والمبادرة والهجوم لكسر التفوُّق «الإسرائيليِّ» في العدَّة والعديد، والتزامن واتساع نطاق الهجوم، وبذلك هزمت الجيش «الإسرائيليِّ»، ليس فقط لنجاحها في المبادرة والمباغتة، بل استخدامها ستين محوراً في الاختراق دون وجود أيِّ ردِّ فعلٍ عمليَّاتيٍّ على مستوى الفرق والقيادة وهيئة الأركان العامَّة. كما استطاعت البنية التحتيَّة لشبكة الأنفاق أن تحطِّم القدرة «الإسرائيليَّة» وتحرجها، ما أسهم في نجاح المقاومة في تأمين بقائها، وبناء قوَّةٍ لحرب العصابات المندمجة بين المدنيِّين والمعتمدة على نحوٍ أقلَّ على البنى التحتيَّة المنظَّمة والأطر العسكريَّة.
أبزرت الحربُ الوعيَ والتأثير في المجتمع الدولي، الذي فشلت فيه «إسرائيل» فشلاً ذريعاً، ما عزَّز الدعوات لقيام دولةٍ فلسطينيَّةٍ، ما يمثِّل هزيمةً استراتيجيَّةً «لإسرائيل» في ساحة المعركة السياسيَّة، وجعلها تعاني من صورةٍ منهكةٍ في العالم، تمارس أعمالاً عدائيَّةً ضدَّ المدنيِّين، وتجوِّع السكَّان وتحرِّض على الحروب.
كسرت المقاومة التفوُّق التكنولوجيَّ للصناعة الدفاعيَّة «الإسرائيليَّة» بوسائل بدائيَّةٍ، فوضعت صاروخ (RPJ) في تحدٍّ مع نظام الدفاع المتطوِّر (ويندبريكر) على سبيل المثال؛ أي الاستثمار في الوسائل الرخيصة في مقابل الترسانة «الإسرائيليَّة» باهظة الثمن، والتي تستغرق وقتاً طويلاً في التطوير والإنتاج.
كما أكّد أنَّ فشل «إسرائيل» سببه الأساسيُّ افتقارها لاستراتيجيَّةٍ عامَّةٍ للدفاع عن حدودها، عاقداً مقارنة بين حرب تشرين 1973، وتشرين 2023 بقوله: «فكَّك المصريُّون خطَّ بارليف في أربع ساعاتٍ، بينما استغرقت حماس 12 دقيقةً لتفكيك الحاجز في منطقة التطويق».
الجدير بالذكر أنَّ الكاتب «الإسرائيليَّ» إفرايم عنبار في تحليله لموقع «نيوز 12» حذَّر من أنَّ «الشعور المفرط بالثقة» قد يدفع «إسرائيل» إلى ارتكاب «أخطاء استراتيجية قاتلةٍ»، فهي في النهاية، دولةٌ صغيرةٌ في الموارد البشريَّة والاقتصاديَّة، وتعاني من استنزافٍ كبيرٍ فيهما، وتعتمد اعتماداً كبيراً على المساعدات الأمريكيَّة، ما يجعلها عرضةً للتحوُّلات السياسيَّة في واشنطن وتراجعها الواضح عالميّاً، أي لا تستطيع تحمُّل تكاليف حربٍ مستمرَّةٍ دون دعمٍ خارجيٍّ هو الآن في حدودٍ دنيا قياسيَّةٍ منذ نشوء الكيان، كما أنَّ الانقسامات العميقة في الجبهة الداخليَّة تهدِّد متانة مجتمعها، وهو عنصرٌ حاسمٌ في ضرب قوَّتها.
فعند الحديث عن قدرات «إسرائيل العسكريَّة» بالأرقام، يحتل جيشها المرتبة 18 بين جيوش العالم، بميزانيَّةٍ تقديريَّةٍ تبلغ 24.3 مليار دولار أمريكي، و90 رأساً نوويّاً وفق تقديرات SIPRI، ناهيك عن تعداد العديد والعتاد فيه، لكنَّ هذه القوَّة العسكريَّة تفتقر إلى مقوِّمات القوَّة الداخليَّة التي تسمح ببقائها، إضافةً إلى أنَّ عوامل وجودها الخارجيِّ بدأت تهتزُّ من أصولها.
إسرائيل والعزلة الإقليميَّة
تحوُّل التحالفات التاريخيَّة هو أحد أكبر التحدِّيات التي تواجه «إسرائيل» اليوم، فالتحالفات الإقليميَّة التي كانت في يومٍ من الأيَّام حجر الزاوية في استراتيجيَّتها الأمنيَّة بدأت بالتفكُّك. كانهيار محاولات التطبيع، إذ لم تبقَ الدول التي كانت حليفاً سابقاً -سواءً على نحوٍ معلنٍ أو مستترٍ- في الموقع نفسه. فتركيا تشهد علاقاتها مع «إسرائيل» توتراً متصاعداً، والمملكة العربيَّة السعوديَّة علَّقت مفاوضات التطبيع وتدعم حلَّ الدولتين، بينما تواصل إيران -رغم الضربات التي تعرَّضت لها– تقدُّمها النووي وتمثِّل -وفق التحليل «الإسرائيليِّ»- عقبةً مركزيَّةً كأْداء أمام أيِّ نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ.
ولا يمكن إغفال تحوُّل الدول الوسيطة، قطر ومصر، كما كان في السابق. إذ تشير تحليلاتٌ إلى أنَّ الخطَّة الأمريكيَّة-«الإسرائيليَّة» تسعى إلى «تقليم دور الوسطاء» وإدارة الصراع مباشرةً، ممَّا أضعف الثقة بين الحلفاء الإقليميِّين وكرَّس منطق الإملاء العسكريِّ بدلاً من الدبلوماسيَّة.
تفكُّك أسطورة القوَّة التي لا تقهر
الادعاء بأنَّ «إسرائيل» هي «القوَّة الأكبر في الشرق الأوسط»، محاولةٌ من نتنياهو لإنقاذ إرثه السياسيِّ، وإسقاط وهم القوَّة على واقع الهشاشة. لقد فقدت «إسرائيل» تعاطف العالم، إذ تشير تصريحاتٌ رسميَّةٌ دوليَّةٌ، أنَّ «إسرائيل قد انتهكت القانون الإنسانيَّ الدوليَّ»، وأنَّ أفعالها تصل إلى حدِّ جريمة الإبادة الجماعيَّة. كما أنَّ الاعتراف المتزايد بدولة فلسطين من دولٍ أوروبيَّةٍ كبرى وتحت ضغط شعوبها الذين احتلوا الساحات نصرةً لغزة، يظهر عمق العزلة الدبلوماسيَّة التي تواجهها «إسرائيل».
في النهاية، تكشف تناقضات خطاب نتنياهو عن أزمةٍ وجوديَّةٍ عميقةٍ، فإنّ «إسرائيل» التي وُلدت من رحم اتفاق تقسيم «سايكس بيكو» ووعد بلفور المشؤوم، وقراراتٍ دوليَّةٍ استندت بشرعيَّتها على التعاطف العالميِّ بعد المحرقة، أصبحت اليوم أوَّل قوَّةٍ مكروهةٍ عالميّاً. لقد نجحت في صناعة أسلحةٍ هجوميَّةٍ هي «الأكثر تطوُّراً على الكوكب» كما يتباهى نتنياهو، لكنَّها فشلت في صناعة السلام أو تحقيق الأمان لشعبها. القوة الحقيقيَّة لا تقاس بالتفوُّق العسكري فقط، بل بالقدرة على البقاء وامتلاك مقوِّماته، وفي هذه المعايير تظهر «إسرائيل» كعملاقٍ عسكريٍّ على أقدامٍ من طينٍ.
رهام الساجر