احتجاجات «جيل زد 212»: صرخة وجهة في زمن التحولات الكبرى
في مشهد يعيد إلى الأذهان صحوات تاريخية للشباب، تشهد الساحة المغربية منذ أواخر أيلول 2025 حراكاً احتجاجياً غير مسبوق تقوده مجموعة شبابية تطلق على نفسها اسم «جيل زد 212»، اختارت أن تنتقل من الفضاء الرقمي إلى الشارع حاملةً مطالب إصلاح جذرية لمنظومتي التعليم والصحة، في مواجهة نظام يحاصرهم بالفساد ويقمع أحلامهم. هذه الاحتجاجات التي انطلقت شرارتها من مأساة إنسانية في مستشفى بأغادير، لم تعد مجرد حركة محلية، بل تحولت إلى نموذج لصحوة جيل يرفض أن يُدفن حياً تحت ركام الفساد واللامساواة.
جذور الأزمة: بين مأساة الصحة وتردي التعليم
لم تكن احتجاجات الشباب المغربي وليدة اللحظة، بل جاءت تتويجاً لتراكم إحباطات طويلة، بلغت ذروتها بمأساة مستشفى الحسن الثاني في أغادير التي فقدت فيها ثماني نساء حياتهن أثناء الولادة، في حادثة سلطت الضوء على الوضع المزري للقطاع الصحي بالمملكة. تشير الأرقام إلى أن ميزانية قطاع الصحة لم تتعد 32.6 مليار درهم (3.5 مليارات دولار) في عام 2025، ما يمثل نحو 4% فقط من الموازنة العامة للدولة. ويواجه القطاع عجزاً هائلاً في الكوادر الطبية، حيث يبلغ عدد الأطباء 15 ألفاً و600 طبيب فقط، أي ما يعادل 0.43 طبيب لكل ألف نسمة، وهي نسبة تتدنى كثيراً عن المعدل العالمي.
في المقابل، تذهب مليارات الدراهم لتمويل استعدادات المغرب لاستضافة بطولتي كأس الأمم الأفريقية 2025 وكأس العالم 2030، حيث تُقدَّر الاستثمارات الحالية لتجديد الملاعب وتطويرها بما يزيد على 9.5 مليار درهم. هذا التباين الصارخ في أولويات الإنفاق ولد شعوراً عاماً بالإحباط، تجلى في أحد الشعارات التي رفعها المحتجون: «الملاعب موجودة... لكن فين السبيطار (المستشفى)؟».
الفساد المنهجي: الورم الخبيث في جسد الدولة
تشكل ظاهرة الفساد المستشرية العامل الخفي الذي يغذي جميع المطالب الاجتماعية التي نادى بها المحتجون. فما يعانيه قطاعا التعليم والصحة من تردٍّ ليس نتيجة للإهمال العابر، بل هو محصلة طبيعية لفساد منهجي يستنزف المال العام. وفقاً للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، يخسر الاقتصاد الوطني ما بين 4% إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً بسبب الفساد، وهو ما يعادل أكثر من 20 مليار درهم، وهي أموال كان من الممكن أن تكون حاسمة في تطوير البنية التحتية للخدمات الاجتماعية الأساسية.
ويكمن أحد أهم أسباب الاحتقان في الفجوة الهائلة بين الخطاب الرسمي حول مكافحة الفساد والواقع الملموس. فالمغرب، ورغم إطلاقه «الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد» منذ 2015 بهدف الوصول إلى 60 نقطة من 100 في مؤشر مدركات الفساد بحلول 2025، فإن الواقع يشير إلى فشل ذريع في تحقيق هذا الهدف. ففي عام 2023، لم يتجاوز ترتيب المغرب 38 نقطة، ليهوي إلى الرتبة 97 عالمياً بعد أن كان في المرتبة 73 عام 2018.
ويبرز غياب الإرادة السياسية الحقيقية في مكافحة الفساد من خلال عدة مؤشرات دالة، منها عدم عقد رئيس الحكومة للجنة الوطنية لمكافحة الفساد منذ تنصيبها سنة 2017، رغم المراسلات المتكررة في شأنها. كما أن تعامل الحكومة مع تقارير الهيئات الرقابية، مثل الهيئة الوطنية للنزاهة والمجلس الأعلى للحسابات، يتسم بـ«التعنت» و«التجاهل» لتوصياتها.
حراك رقمي بقيادة جيل جديد
تميزت هذه الاحتجاجات بطابعها الشبابي المحض، حيث قادتها مجموعة «جيل زد 212» التي ظهرت بشكل مفاجئ وتزايد صداها بسرعة عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما تطبيق «ديسكورد» الذي اختارته المجموعة لإخفاء هويتها. أطلقت المجموعة نداءها قبل نحو شهر للتظاهر يومي 27 و28 أيلول 2025، للمطالبة بالحق في الصحة والتعليم، في حركة وُصفت بأنها «منتوج خالص للإنترنت» ببنية غير تقليدية وقيادة غير معروفة.
وقد نجحت هذه المجموعة في تحويل النداء الرقمي إلى موعد جماعي التزم به الآلاف من الشباب في مختلف المدن المغربية، مستفيدة من انتشار الهواتف الذكية وتقنيات التواصل الحديثة في تعبئة الشارع.
جدول يوضح تطور الميزانيات في القطاعات الحيوية (بالمليار درهم)
القطاع |
عام 2023 |
عام 2024 |
عام 2025 |
التعليم |
69 |
74 |
86 |
الصحة |
28 |
30 |
32.6 |
المطالب: بين الخدمات والعدالة الاجتماعية
لم تكن مطالب المحتجين مجرد شعارات عامة، بل جاءت محددة وواضحة، ويمكن تلخيصها في أربع محاور رئيسية:
في المجال التعليمي، طالبت الحركة بتوفير تعليم جيد ومجاني للجميع، وسد النقص الحاد في الأساتذة للحد من الاكتظاظ في الأقسام، وتحديث المناهج ومواكبة العصر مع رقمنة التعليم، وبناء وتجهيز المدارس في القرى والمناطق النائية، إضافة إلى اعتماد الإنجليزية كلغة ثانية.
أما في القطاع الصحي، فقد تركزت المطالب حول تجويد الخدمات الصحية العمومية عبر رفع عدد الأطباء لكل ألف نسمة، وتوفير المستلزمات الطبية، ودعم الإنتاج المحلي للأدوية، وتطوير خدمات الإسعاف والنقل الصحي، ورقمنة المواعيد الطبية لتقليص أوقات الانتظار.
كما تضمنت المطالب شقاً اقتصادياً ركز على تخفيض الأسعار ودعم المواد الأساسية، وتحسين الأجور ومعاشات التقاعد، وتوفير فرص عمل للشباب والحد من البطالة التي بلغت 12.8% على المستوى الوطني، وفق بيانات المندوبية السامية للتخطيط للفصل الثاني من سنة 2025.
المواجهة: بين القمع الحكومي واستمرار الحراك
واجهت السلطات المغربية هذه الاحتجاجات بحملة أمنية مكثفة، حيث منعت التظاهرات في أيامها الأولى وشرعت في تفريقها باعتبارها غير مرخصة. وأسفرت هذه المواجهات عن إصابة 263 عنصراً من القوات العمومية بجروح متفاوتة الخطورة، واعتقال 409 شخصاً على الأقل، وفق ما أعلنته وزارة الداخلية المغربية. وبلغت المواجهات ذروتها في بلدة القليعة جنوب المغرب، حيث قُتل شخصان وأصيب آخرون برصاص قوات الأمن أثناء محاولتهم اقتحام ثكنة للدرك الملكي.
ورداً على هذه التحركات، حاولت الحكومة المغربية تهدئة الشارع من خلال إصدار بلاغات عبرت فيها عن «استعدادها للحوار مع الشباب المحتجين»، كما قدم وزير الصحة أمين التهراوي تصريحات أكد فيها أن «الحكومة تتفهم المطالب وتقاسمها هذه المشاكل والهموم مع المواطنين». لكن هذه التصريحات لم تنجح في تهدئة الغضب الشعبي، خاصة مع غياب رئيس الحكومة عزيز أخنوش عن المشهد، مما جعله «عرضة للتهكم والتندر اليومي داخل منصات التواصل الاجتماعي».
في سياق عالمي: انعكاس لتحولات كبرى
لا يمكن فهم هذه الاحتجاجات بمعزل عن التحولات العالمية الكبرى التي يشهدها العالم، حيث تتصاعد الحركات الشبابية المطالبة بعدالة اجتماعية في مواجهة سياسات النيوليبرالية التي أنهكت الخدمات الأساسية في العديد من الدول. فما يحدث في المغرب هو جزء من موجة عالمية يقودها جيل Z، جيل تربى على الشبكات الرقمية ويرفض أن يُترك على الهامش، كما يتجلى في الانتشار العالمي لتعبير متداول على الشبكة «أعلام مختلفة، ومعركة واحدة».
تمثل هذه الاحتجاجات أيضاً تحولاً في موازين القوى العالمية، حيث لم تعد الشعوب تقبل بسياسات التقشف التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، خاصة في ظل صعود القطب الشرقي كبديل محتمل للنموذج الغربي السائد. كما تعكس تراجع تأثير الأحزاب التقليدية والنقابات، لصالح حركات شعبية لامركزية تنبثق من رحم المجتمعات نفسها، مستفيدة من أدوات العصر الرقمي في التنظيم والتعبئة.
خاتمة: نحو مستقبل مجهول
تبقى التطورات القادمة للحراك المغربي مرهونة بعدة عوامل، أهمها قدرة الحركة على الحفاظ على زخمها في الشارع، واستمرارها في ابتكار أساليب ضغط سلمية، وتوسيع قاعدتها الشعبية، وقدرة النظام على استيعاب الغضب الشعبي من خلال إصلاحات حقيقية تلامس جذور الأزمة.
إن احتجاجات «جيل زد 212» في المغرب ليست مجرد احتجاج على نقص الخدمات، بل هي تمرد على منظومة فاسدة بأكملها، ورفض لنهج سياسي يفضل الاستثمار في الصروح الرياضية الفاخرة على حساب صحة المواطنين وتعليمهم. إنها معركة كرامة قبل أن تكون معركة خدمات، وهي صرخة وجهة جديدة تعلن أن زمن الصمت قد ولى، وأن جيلاً جديداً قرر أن يكتب تاريخه بيده، رافضاً أن يكون ضحية لفساد منهجي استشرى في جسد الدولة مثل سرطان خبيث.
ما يمكن الجزم به هو أن الشارع المغربي دخل مرحلة جديدة من الوعي، لم يعد فيها الشباب مستعداً لتحمل وعود الإصلاح المؤجلة، خاصة في ظل وجود موارد مالية هائلة تُوجه نحو مشاريع ترى جماهير عريضة أنها لا تخدم الأولويات الحقيقية للبلاد. إنها معركة المصير بين جيل يطمح للعدالة والكرامة، ونظام يبدو عاجزاً عن فهم عمق الغضب الشعبي أو غير راغب في الاعتراف بجذوره الحقيقية.