الضمانات الاستثمارية... خطوة هامة لكنها غير كافية أيضاً
خلال الأشهر الماضية، تكررت الأخبار عن توقيع دمشق لمذكرات تفاهم واتفاقيات استثمارية بمليارات الدولارات مع أطراف إقليمية ودولية، في قطاعات تمتد من الطاقة إلى البنية التحتية والأسواق المالية. وجاءت الاتفاقية السعودية–السورية الأخيرة لتشجيع وحماية الاستثمار كأحدث هذه الخطوات، بعد المنتدى الاستثماري الذي شهد مشاركة أكثر من مئة شركة سعودية وإقرار 47 مشروعاً بقيمة تفوق 6,4 مليار دولار.
على الورق، تبدو هذه المشروعات بمثابة انطلاقة اقتصادية جديدة لسورية، ورسالة سياسية عن استعداد شركاء إقليميين لإعادة ضخ رؤوس أموال ضخمة في السوق السورية. لكن على الأرض، يظل السؤال قائماً: هل يمكن لهذه المذكرات أن تتجاوز مرحلة النوايا لتتحول إلى استثمارات فعلية؟
الضمانات الاستثمارية نوايا نظرية أيضاً
تقدم الاتفاقية السعودية– السورية، مثل غيرها من الاتفاقيات الثنائية، بنوداً أساسية لحماية المستثمرين بعناوين أساسية، ومنها: منع المصادرة والتأميم غير المشروع- حرية تحويل الأرباح ورؤوس الأموال- واللجوء إلى التحكيم الدولي- وغيرها. هذه البنود ضرورية لأي استثمار أجنبي، وهي تشكل رسالة طمأنة أولية للمستثمرين السعوديين الراغبين في دخول السوق السورية.
لكن المشكلة أن الضمانات القانونية لا يمكن أن تعمل في فراغ.
فغياب دستور دائم، وضعف استقلال القضاء، والهشاشة الأمنية، وعجز السياسة النقدية عن ضبط سعر الصرف، كلها عوامل تجعل هذه الضمانات أقرب إلى التطمينات النظرية منها إلى ضمانات عملية.
الواقع السوري… بيئة محفوفة بالمخاطر
البيئة السورية اليوم تواجه تحديات عميقة بعناوين رئيسية تالية:
سياسياً: البلاد في مرحلة انتقالية من دون مؤسسات مكتملة الشرعية.
أمنياً: مناطق عديدة لا تزال تعاني من هشاشة واستقطابات، ما يجعل أي استثمار عرضة للتوقف أو التضرر.
اقتصادياً: سعر الصرف متقلب، والتضخم مرتفع، والمصارف تعمل بقدرات محدودة.
مؤسسياً: السوق الداخلية غير موحدة، والبنية التنظيمية لا تتيح حركة سلسة لرؤوس الأموال.
في ظل هذه الأوضاع، يصعب تصور أن مليارات الدولارات التي تعهدت بها الشركات ستدخل فعلاً في مشاريع على الأرض، ما لم يتحقق الحد الأدنى من الاستقرار الشامل.
مذكرات التفاهم.. رسائل سياسية أكثر من التزامات اقتصادية
الاتفاقيات المليارية التي وُقعت في الأشهر الأخيرة، سواء مع السعودية أو غيرها، تشكل في الوقت الحالي إشارات سياسية أكثر منها التزامات اقتصادية فعلية. فهي تعكس رغبة الأطراف الموقعة في إبقاء الباب مفتوحاً أمام التعاون الاقتصادي، لكنها في الوقت نفسه تبقي التنفيذ رهينة بتحقق شروط موضوعية لم تتوافر بعد.
المشاريع الضخمة مثل تأسيس "صندوق الصناديق" أو تطوير وتوسيع عمل سوق دمشق للأوراق المالية لا يمكن أن ترى النور إلا في بيئة تتسم بالثقة والاستقرار. فالمستثمرون الكبار لا يدخلون عادة إلى أسواق عالية المخاطر إلا بوجود منظومة قانونية قوية، ومؤسسات مالية مستقرة، وقضاء مستقل قادر على حسم النزاعات.
الاستثمار يبحث عن الاستقرار أولاً
من الواضح أن السعودية، مثل غيرها من الشركاء المحتملين، لا تسعى إلى المغامرة بقدر ما تبحث عن فرص مشروطة بالاستقرار. فرأس المال، كما يُقال، "جبان"، ولا تكفي الاتفاقيات المليارية ولا الضمانات القانونية على الورق لإقناعه، ما لم ترافقها بيئة سياسية وأمنية واقتصادية متينة.
لذلك، يمكن القول إن جميع مذكرات التفاهم المليارية التي وُقعت في الأشهر الماضية، وبغض النظر عن كل ما يمكن ان يساق حولها، ستظل نوايا معلقة، ورسائل سياسية بانتظار لحظة التحول الكبرى، وهي لحظة استقرار سورية بشكل كامل. حينها فقط يمكن أن تتحول هذه الوعود إلى استثمارات حقيقية لتشق طريقها في بنية الاقتصاد السوري.