لبنان في مفترق طرق: بين ضغوط نزع السلاح وخطر الفوضى
في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة، يعيش لبنان مرحلة مفصلية وحساسة، تأتي في أعقاب تصعيد عسكري بلغ ذروته بعملية »البيجر» ثم اغتيال الأمين العام لحزب الله وعدد من قيادات الصف الأول، في ضربة موجعة للحزب. تلا ذلك توقيع اتفاق وقف العدوان في نوفمبر 2024، والذي نص على انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، وتعهد «اسرائيل» بالانسحاب من الأراضي المحتلة، بما فيها «النقاط الخمس»، ووقف الغارات الجوية والعمليات الأمنية.
لكن استمرت الخروقات «الإسرائيلية» بوتيرة متصاعدة، حيث سجّل الجانب اللبناني أكثر من 3000 خرق للهدنة، وأسفر القصف المستمر عن مقتل أكثر من 230 شخصاً، معظمهم من المدنيين. هذه التطورات كشفت عن تصدّع في الالتزام الدولي، وغياب الضمانات الفعلية لوقف العدوان.
على الصعيد السياسي، يتعرض لبنان لضغوط أمريكية مكثفة، تجلت في أربع زيارات قام بها المبعوث الأمريكي إلى لبنان وسوريا، توم باراك، خلال العام الجاري. في لقاءاته، طرح باراك رؤية أمريكية لحل الصراع اللبناني-«الإسرائيلي»، تتمحور حول «نزع سلاح حزب الله مقابل ضمانات أمنية ودعم اقتصادي». كما قارن بين لبنان وسوريا، معتبراً أن سوريا أصبحت أكثر تجاوباً مع التحولات الإقليمية، بينما يتخلف لبنان بسبب عجز الدولة عن بسط سلطتها.
وفي تصريح لصحيفة «ذا ناشيونال»، حذّر باراك من أن «لبنان إذا لم يتحرك، فقد يعود إلى بلاد الشام»، في إشارة مبطّنة إلى تهديد وجودي قد يطال وحدته الوطنية، أو يدفعه نحو دوامة صراعات إقليمية أو حتى حرب أهلية.
تحت وطأة هذه الضغوط، أعلنت الحكومة اللبنانية، برئاسة نواف سلام، خطة «حصر السلاح بيد الدولة»، وفق مسار زمني محدد. وتنص الخطة على ثلاث مراحل رئيسية:
في المرحلة الأولى، تُصدر الحكومة خلال 15 يوماً مرسوماً تتعهد فيه بنزع سلاح حزب الله بالكامل بحلول 31 ديسمبر 2025، مقابل وقف «إسرائيل» للعمليات العسكرية البرية والجوية والبحرية.
أما المرحلة الثانية، فتشمل تنفيذ الخطة خلال 60 يوماً، مع نشر الجيش اللبناني في المناطق الحدودية، وبدء «إسرائيل» بالانسحاب التدريجي من بعض المواقع، وإطلاق سراح محتجزين لبنانيين بالتنسيق مع الصليب الأحمر.
في المرحلة الثالثة، تنسحب «إسرائيل» من النقطتين المتبقيتين من «النقاط الخمس»، وتُطلق عملية تمويل إعادة الإعمار وإزالة الأنقاض.
وتشترط المرحلة الرابعة تفكيك كامل للأسلحة الثقيلة لدى حزب الله، كالمضادات الجوية والطائرات المسيرة، خلال 120 يوماً.
وقد أقرت رئاسة الجمهورية اللبنانية بمنشور على منصة «X» – تويتر سابقاً الأهداف الرئيسية للورقة الأمريكية، التي تشمل:
1- تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ«اتفاق الطائف»، إلى جانب الدستور اللبناني وقرارات مجلس الأمن، ولا سيما القرار 1701.
2- ضمان استمرارية وقف الأعمال العدائية، بما يشمل جميع الانتهاكات الجوية والبرية والبحرية.
3- الإنهاء التدريجي للوجود المسلح لكافة الجهات غير الحكومية، بما في ذلك «حزب الله»، في جميع الأراضي اللبنانية، سواء جنوب نهر الليطاني أو شماله، مع تقديم الدعم للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي.
4- نشر الجيش اللبناني في المناطق الحدودية والمواقع الداخلية الرئيسية، مع توفير الدعم اللازم له وللقوى الأمنية.
5- انسحاب «إسرائيل» من «النقاط الخمس»، وتسوية قضايا الحدود والأسرى بالطرق الدبلوماسية، من خلال مفاوضات غير مباشرة.
6- عودة السكان المدنيين في القرى والبلدات الحدودية إلى منازلهم وممتلكاتهم.
7- ضمان انسحاب «إسرائيل» الكامل من الأراضي اللبنانية، ووقف جميع الأعمال العدائية بما في ذلك الانتهاكات الجوية والبرية والبحرية.
8- ترسيم دائم ومرئي للحدود الدولية بين لبنان و«إسرائيل».
9- ترسيم وتحديد دائم للحدود بين لبنان وسوريا.
10- تنظيم مؤتمر اقتصادي بمشاركة الولايات المتحدة، وفرنسا، والسعودية، وقطر، ودول صديقة أخرى، لدعم الاقتصاد اللبناني وإعادة الإعمار.
11- توفير دعم دولي إضافي للأجهزة الأمنية اللبنانية، خصوصًا الجيش اللبناني، من خلال تزويده بالوسائل العسكرية الملائمة لتنفيذ بنود الاقتراح وضمان حماية لبنان.
إلا أن حزب الله أعلن رفضه التام لهذه الخطة، ووصف القرار الحكومي بـ«الخطيئة الكبرى»، مؤكداً أنه «سيتعامل مع القرار وكأنه لم يكن». وشدد الحزب على أن «منطق الضمانات قد سقط»، في إشارة إلى خرق إسرائيل المستمر للهدنة، وغياب أي ضمانات فعلية من الدول الراعية.
الحزب، رغم الضربات الموجعة التي تلقاها، لا يزال يمتلك بنية عسكرية قوية وقاعدة شعبية واسعة، كما أن الكيان الإسرائيلي اعترف بعدم تدمير كامل مخزونه الصاروخي. هذا الواقع يطرح تساؤلاً جوهرياً: هل يمكن نزع سلاح حزب الله بقرار حكومي؟
الخطوة الرمزية التي شهدتها بعض المخيمات الفلسطينية، مثل برج البراجنة، بتسليم أسلحة خفيفة ومتوسطة، تُقرأ على أنها محاولة لإظهار «جدية الدولة» أمام الضغوط الدولية
في المحصلة، يبدو أن مطالبة نزع السلاح لا تهدف فقط إلى تفكيك حزب الله، بل تُستخدم كأداة لتصعيد التوتر، ورفع حرارة الصراع في المنطقة، ودفع لبنان نحو مزيد من الانهيار الداخلي. وهذا يتماشى مع استراتيجية «الفوضى الخلاقة» التي تسعى إليها «إسرائيل» والولايات المتحدة، عبر زرع الفتنة ودفع لبنان وسوريا نحو صراعات داخلية وجر الدول الاقليمية لهذه الفوضى.