القطبة المخفية في موقف باكستان

القطبة المخفية في موقف باكستان

ما إن بدأ العدوان الصهيوني على إيران في يوم الجمعة 13 حزيران حتى ظهر الموقف الباكستاني الداعم لإيران بوضوح، وكان لهذا تأثير كبير، نظراً لأن باكستان لها رمزية كبيرة في العالم الإسلامي وذلك بغض النظر عن الظروف الدولية التي أدت لنشوء الدولة الإسلامية في وسط آسيا.

نقدّم فيما يلي عرضاً شاملاً لهذه القضية نظراً لأن الموقف في إسلام أباد ربما يتطور في الأيام القليلة القادمة بشكلٍ ملموس وهو ما قد يكون له تأثير حاسم خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن باكستان هي الدولة الإسلامية النووية الوحيدة.

عرض للموقف الباكستاني

بدأ الموقف الباكستاني يظهر من يوم 13 حزيران بعد ساعات من العدوان الصهيوني، وأدان سفير باكستان في الأمم المتحدة عاصم افتخار أحمد العدوان ووصفه «بغير المبرر وغير المشروع» وأكد قائلاً: «الضربات العسكرية (الإسرائيلية) تنتهك سيادة إيران وسلامتها الإقليمية وتتعارض بوضوح مع ميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الأساسية للقانون الدولي» وأكد حق إيران بالدفاع عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ، مشيراً إلى ضرورة اعتماد الوسائل الدبلوماسية لحل التوترات.

في اليوم التالي ثبّت رئيس الوزراء شهباز شريف موقف باكستان إذ حثّ المجتمع الدولي والأمم المتحدة على اتخاذ «خطوات عاجلة وذات مصداقية» لإنهاء الحرب (الإسرائيلية) في إيران مندداً في الوقت ذاته بـ«استفزازات (إسرائيل) وتهورها». ثمّ طوّر وزير الدفاع في اليوم ذاته موقف باكستان من خلال حثّه الدول الإسلامية على تبني استراتيجية موحدة لمواجهة «إسرائيل»، محذراً من أن الفشل في العمل الجماعي سيجعل الجميع عرضةً للخطر. ودعا إلى عقد اجتماع لمنظمة التعاون الإسلامي (OIC) لوضع استراتيجية لمواجهة «إسرائيل» جماعياً، وقطع العلاقات الدبلوماسية معها في العالم الإسلامي، وقال في هذا السياق: «سنقف إلى جانب إيران في هذه الأزمة بكل الوسائل الممكنة وسنحمي مصالحها. الإيرانيون  إخواننا، وآلامهم وآلامنا مشتركة».

كما أجرت باكستان سلسلة من الاتصالات مع دول متعددة في المنطقة كان أبرزها اتصالٌ دار بين رئيس الوزراء الباكستاني والرئيس الإيراني، وبينه وبين الرئيس التركي، كما ويبدو أن اتصالات تجري مع دول عربية وإسلامية أخرى في هذا الخصوص.

وفي سياقٍ متصل شكّل رئيس الوزراء لجنة رفيعة المستوى برئاسة وزير المالية لمراقبة أي تأثير اقتصادي محتمل للصراع المتصاعد في المنطقة وتحديداً بما يخص أسعار النفط التي قفزت بنحو 7% منذ بداية الضربات.

 

لا يعد الموقف الباكستاني مفاجئاً، بل يرتبط إلى حد كبير بسياق تاريخي وسياسي، ويمكن في هذا السياق أن نعرض الأركان الأساسية التي بني عليها هذا الموقف:

 

الجغرافية-السياسية

ما إن نعرف أن الخط الحدودي بين البلدين يمتد على طول 959 كم حتى تبدو الأمور أوضح! فهذا الخط الحدودي يمتد في مناطق قاحلة وشبه صحراوية جبلية كانت ملائمة لنشاطات غير شرعية وتنشط فيها جماعات انفصالية تعمل في تهريب الأسلحة والمخدرات ما فرض على البلدين تعاوناً دائماً في المجال الأمني، هذا فضلاً عن تواجد لقومية البلوش في البلدين وكان لهم نشاط عسكري وانفصالي طويل في باكستان كما يعتبرون أقلية في إيران ويعانون من التهميش في البلدين، ما خلق برميل بارود على الحدود المشتركة يمكن استثماره من أي طرف لخلق بؤرة توتر خطيرة.

التعاون بين البلدين في هذه المسألة دائم رغم تطوره في بعض الأحيان إلى توترات ثنائية لكنه يظل مجالاً حيوياً يتطلب تنسيقاً استخباراتياً عالياً.

من جانبٍ آخر هناك مشاريع بين البلدين مثل خط أنابيب السلام، الذي لا يزال قائماً رغم العراقيل أمامه لكنه طريقة لتأمين باكستان جزءاً مهماً من احتياجاتها من الطاقة، هذا فضلاً عن اهتمام إيران بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.

بناءً على ما سبق يمكن لأي حالة من عدم الاستقرار في إيران أن تتحول إلى تهديد حقيقي لباكستان التي لا ترى نفسها بعيدةً عن الاستهداف الغربي وخصوصاً مع التحولات الجارية في سياستها الخارجية منذ سنوات.

 

عداء تاريخي باكستاني - «إسرائيلي»

كانت باكستان من الدول التي لم تعترف بـ «إسرائيل» ودعمت القضية الفلسطينية نظراً لكون الأخيرة ظلّت دائماً قضية محورية في العالم الإسلامي من جهة، ونظراً إلى أن «إسرائيل» لم تكن مرتاحة لشكل تطور باكستان، وتحديداً في المجال العسكري، وزاد القلق الصهيوني بعد مواقف إسلام أباد في مؤتمر قمة منظمة التعاون الإسلامي في لاهور عام 1974 حين حصلة منظمة التحرير الفلسطيني على اعتراف إسلامي بكونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ومنح ياسر عرفات وضع رئيس دولة لأول مرة.

التقارب الفلسطيني-الباكستاني ارتبط إلى حدٍ كبير بالنوايا الصهيونية الخبيثة تجاه باكستان، فحيازتها  للسلاح النووي تطورت عبر مراحل مختلفة، كانت في بداياتها تستند إلى التبني الغربي للمشروع الباكستاني وخصوصاً في مواجهة الهند التي كانت محسوبة على المعسكر الاشتراكي، لكن «إسرائيل» رأت أن ملكية إسلام أباد لأسلحة الدمار الشامل يمكن أن يتحول بشكلٍ ما إلى مظلة نووية للدول العربية والإسلامية، ولذلك سعت «إسرائيل» لإعاقة هذا المشروع، حتى من مراحله الأولى عبر وسائل الضغط الدبلوماسية، ثم توسّع الطموح «الإسرائيلي» لاستهداف المشروع عسكرياً، ووضعت تل أبيب خططاً مشتركة مع الهند منذ الثمانينيات لضرب المشروع النووي الباكستاني وفشلت المحاولات المتعددة التي استمرت حتى أواخر التسعينيات وبلغ عددها 4 كان آخرها قبل إجراء باكستان أول اختبار تفجير نووي في 28 أيار 1998 في راس كوه.

 

روابط عميقة بين البرنامجين الباكستاني والإيراني

العلاقة الثنائية بين إيران وباكستان أخذت منحىً نوعياً جديداً بعد الثورة الإسلامية 1979، وبدأ التعاون يشمل الميدان النووي، بل إن الدكتور عبد القدير خان المعروف بـ «أبو المشروع النووي الباكستاني» قدّم وبموافقة باكستانية مؤكدة دعماً حاسم لتطوير البرنامج النووي الإيراني، وبدأ ذلك من أواسط الثمانينيات، وحصلت إيران على المخططات وتصاميم أجهزة الطرد المركزي وحصلت على مئات من الأجهزة المصنعة ومعدات أخرى مرتبطة بتلك التكنولوجيا، عبر مركز الهندسة والبحث النووي في باكستان، وهو ما اعترف به خان لاحقاً، في 2004.

التعاون بين البلدين كان متبادلاً بالطبع، وكان لدى إيران ما تقدمه لباكستان في المقابل تحديداً بخصوص تصنيع الصواريخ وتطوير التكنولوجيا بعد أن توجهت طهران لتطوير نفسها في هذا الميدان في أواخر الثمانينيات، التعاون وطبيعة التوجهات الباكستانية لم تعجب الولايات المتحدة الأمريكية وبدأت منذ ذلك الحين تفرض عقوبات كان آخرها في 2024 وهو ما ساهم إلى حدٍ كبير بالتوجه الباكستاني باتجاه الشرق وقرّب بالتأكيد من إمكانية تبادل المصالح بين البلدين الجارين.

«الرادار» الصهيوني

كانت واحدة من أهم استراتيجيات المشروع الصهيوني تقوم على رسم حدود جغرافية واسعة تطمح «إسرائيل» فيها لفرض منطقة خالية من أي قوى متفوقة عليها، ومن هذا الباب بالتحديد شكّل الكيان تهديداً لرقعة جغرافية واسعة نرى إثباتاً أنّها امتدت إلى باكستان شرقاً ولا يمكن تحديد امتداداتها الأخرى بدقة في إفريقيا غرباً لكننا نعرف يقيناً أن «إسرائيل» أدت دوراً موثّقاً في تقسيم السودان وعملت طوال العقود على تحييد مصر كمنافس إقليمي، ولذلك ينظر لها اليوم بدرجة عالية من الخطورة تحديداً من قبل الدول التي تحافظ  على حد أدنى من الاستقرار مثل السعودية وتركيا.

هذا يفسر إلى حد كبير حساسية باكستان الشديدة تجاه العدوان الأخير على إيران، فبعد أن استهدف الكيان في 1981 المفاعل النووي العراقي، واستهدف البرنامج النووي الإيراني منذ بدايته حتى وصل اليوم إلى استهداف مباشر، ترى باكستان أنّها ربما ستكون على قائمة الاستهداف.

 

عودة إلى نقطة الانطلاق

نظراً لكون العدوان (الإسرائيلي) على إيران يشكل تهديداً حقيقياً للمنطقة برمتها تبرز هنا باكستان بوصفها دولة تمتلك هامشاً أكبر للحركة من قوى إقليمية مثل تركيا والسعودية، من هذا الباب يبدو مرجحاً أن يتوسع الدعم الباكستاني، فصادق مجلس الشيوخ في البرلمان الباكستاني اليوم 15 حزيران بالإجماع على مشروع قرار يدعم إيران في مواجهة العمليات العسكرية التي تقوم بها «إسرائيل» باستهداف المنشآت والبنى التحتية واغتيالات شخصيات رفيعة المستوى، ورغم أن باكستان نفت اليوم أيضاً تقارير تتحدث عن تقديم صواريخ لإيران، لكن ذلك لا يلغي الاحتمال بل يثبّت الاتجاه العام.

 

ربما أدت الظروف المتشابهة دوراً كبيراً في التقريب بين البلدين، فنشأة باكستان كانت جزءاً من مخطط غربي لتقسيم الهند، لكن التطور الطبيعي دفع باكستان وتحت تأثير جملة من العوامل لمواقف أكثر استقلالية، لتجد نفسها تحت ضغط العقوبات والابتزاز الغربي، ففي حين كان أنصار الهند  الواحدة يرون في نشأتها مؤامرة غربية لتقسيم بلادهم، وجدت الدولة الناشئة الجديدة نفسها عرضة لمؤامرات غربية بعد عقود. يشبه هذا ببعض الجوانب الحال في إيران. على عكس باكستان تعد إيران بشكلها الحالي مكوناً أصيلاً من المنطقة، لكنّها وتحت سلطة الشاه كانت مركزاً تابعاً للغرب وكانت الولايات المتحدة مستعدة في حينه لتقديم العون لهذا البلد لكن ما إن تغير النظام بعد الثورة حتى وجدت إيران نفسها في مرمى النيران الأمريكية، ثم أدت العقوبات دوراً أساسياً في تكوين شخصية البلد.

على هذا الأساس يبدو الرابط الإيراني-الباكستاني عميقاً ولا يتأثر بأي اختلافات قومية أو مذهبية بل يستند إلى تجربة وظرف مشابه يعلم أصحابه أن الخير يصيبهم معاً والشر أيضاً!