لماذا رفع الغرب العقوبات عن سورية؟
أحمد علي أحمد علي

لماذا رفع الغرب العقوبات عن سورية؟

قرّرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رفع/تعليق العقوبات المفروضة على سورية، بعد عقود من فرضها وإرساء حالة من العزلة الاقتصادية والسياسية كان لها آثارها الكارثية على البلاد وشعبها. لكن وإن بدا هذا القرار وليد اللحظة المفاجئة أو العاجلة المرتبطة بالتحول الكبير الذي جرى في البلاد بعد سقوط سلطة الأسد، فإنه جاء نتيجةً لتحولاتٍ استراتيجيةٍ عميقة في موازين القوى الإقليمية والدولية؛ تحوّلاتٍ تراكمت تفاعلاتها طيلة عقدين من الزمان على أقل تقدير.

يلاحظ المتابع للمشهد العام آراء متعددة في التعاطي مع هذه المستجدات، غير أن الانطباعات بمجملها تحمل كمّاً كبير من الفرح والتفاؤل، وهذا طبيعي ومحقّ بطبيعة الحال، لكن الفرح بإزالة العقوبات أو تخفيفها لا يمنع أن يدرك المرء ما وراء إزالة العقوبات، أو ما يجري في صميم العملية إنْ صح التعبير، ولذا نجد أنه من المفيد الإضاءة على أمرين، أو جانبين مترابطين دفعا الولايات المتحدة ومن بعدها الاتحاد الأوروبي للسير بهذه الخطى...

تحييد سورية عن الخصوم

أحد الدوافع الرئيسية لرفع العقوبات هو الخوف والخشية من أن «تقع» سورية في أحضان خصوم الغرب بالمعنى الدولي، أي روسيا والصين على وجه التحديد، من خلال الاستمرار بسياسة الإبقاء على سورية تحت الضغط، وأن تجد الأخيرة حلولها بمعزل عن الغرب ووصفاته ومؤسساته، فهذا إنْ حصل سيكون حينها إعلان خسارة كاملة ونهائية سريعة للغرب أمام خصومه. على الدوام ينبغي فهم ما يحصل في سورية ضمن إطار الصراع العالمي وإحداثياته، وضمن إحداثيات اللحظة الحالية المحتدمة في الصراع الدولي، سيكون من المضر جداً للمصلحة الأمريكية ونفوذها الدولي المتراجع، أن ترسم سورية مستقبلها الجديد بالتعاون والتنسيق والشراكة مع روسيا والصين وما يمثلانه ويحملانه من مشاريع استراتيجية كبرى بما فيها «المشروع الأوراسي» و«الحزام والطريق» ومثيلاتها.

أمريكا وإعادة التموضع...

ضمن السياق السابق، ووفق الآلية التي تدير فيها أمريكا معركتها / وزنها / أزمتها عبر ترامب وما يمثله من مسار عنوانه الأبرز «الانكفاء الأمريكي»؛ فإن رفع العقوبات يأتي في إطار عملية إعادة تموضعها في المنطقة. وكما يبدو عليه الأمر، فإن واشنطن تعمل جاهدةً على تقليص وجودها العسكري المضني والمكلف في العالم بما فيه «الشرق الأوسط». وضمن هذا السياق الذي تذهب إليه مضطرةً لا راغبةً، فإنها تحاول ملء الفراغ عبر تسليم الملفات لحلفائها في الإقليم، ومثل هذا ما شهدناه مع السعودية وتركيا بخصوص الملف السوري. وذلك بغض النظر عن الشكل الذي حاول الرئيس الأمريكي تكريسه عبر الدفع باتجاه تصويره على أنه محض أدوار لكلّ من السعودية وتركيا. وهنا لا شكّ أن لهاتين الدولتين دوراً مهماً قاما بلعبه في هذا الإطار، لا إنكار لذلك في قولنا هنا، بل هو بالضبط محاولة لتوسيع دائرة النظر وفهم الأمر من جانبه الأوسع ضمن إطار التفاعل الجاري للعمليات في الإقليم بالتوازي والانعكاس لما يحصل على الساحة الدولية.

هذا كل شيء؟!

ليست المقاصد مما ذكر سابقاً القول إن الأسباب وراء رفع العقوبات أو تعليقها هي هذه فقط، فلا شك هنالك جوانب أخرى للعملية قد نتناولها في سياقات أخرى لاحقاً، لكن الذهاب في التحليل بعيداً عن اتخاذ هذه الأمور في الحسبان سينتج فهماً قاصراً وسيصل في نهاية المطاف إلى نتائج خاطئة في الحسابات.

وإذا ما كان السؤال المشروع عن دلائل ما نقوله مطروحاً، ففي الحقيقة ليس أدلّ عليه ممّا جاء تحت قبة الكونغرس الأمريكي لمرات متعددة من قبل دبلوماسيي أمريكا، وضمن إطار النصح للإدارة الأمريكية بأن عليها ألا تترك سورية ترتمي في أحضان روسيا والصين، ويمكن في هذا الإطار الرجوع إلى البيان المشترك الذي أصدره السيناتوران جين شاهين (ديمقراطية) وجيم ريش (جمهوري) واللذين يؤكدان فيه أهمية تنفيذ قرار الرئيس الأمريكي برفع العقوبات بسرعة، مشدّدين على أن ذلك «سيساعد سوريا على البقاء على طريق التحرر من التأثير (الخبيث) لإيران وروسيا، ومن محاولة الصين الحصول على موطئ قدم اقتصادي في الشرق الأوسط».

خيوط اللعبة

أخيراً، لا بدّ من التنويه إلى أنّ رفع الغرب للعقوبات عن سورية ليس قراراً عاطفياً أو إنسانياً، فالعقوبات على الدوام كانت ورقة سياسية تلعبها الولايات المتحدة تبعاً لمصالحها في اللحظة التي تجدها مناسبة إن كان عبر الفرض أو الرفع. وإذا ما كانت سورية ساحةً لتقاطع المصالح والصراعات عبر تاريخها الطويل، بحكم موقعها الجيوسياسي الهام، فإن ما يتعين على سورية اليوم هو أن تلعب أوراقها بحذرٍ وذكاء، مستفيدةً من هذه «الفرصة» الغربية لتحقيق استقرارٍ داخليٍّ وتنميةٍ اقتصادية، لكن دون الوقوع في فخّ التبعية لأيِّ طرفٍ خارجي، لأن ما قامت به أمريكا عمليّاً هو أنها، وعبر رعايتها للعملية وشكل إدارتها لها؛ أبقت على خيوط اللعبة بيدها لتكون هذه الخيوط أداةً للتحكّم في العمليات الاقتصادية والسياسية الجارية الآن، والتي ستجري مستقبلاً في البلاد.