أزمة الطاقة تدفع أوروبا إلى هامش المعادلة الدولية

أزمة الطاقة تدفع أوروبا إلى هامش المعادلة الدولية

دخلت الصناعة الأوروبية عام 2024 في نفقٍ مظلم بالتوازي مع استمرار الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة، ما سرّع من وتيرة التباطؤ الاقتصادي في القارة وأضعف مكانتها الجيوسياسية. فبينما تواجه الاقتصادات الأكبر في الاتحاد الأوروبي تحديات غير مسبوقة، لم تفلح السياسات النقدية، وعلى رأسها خفض الفائدة من قبل البنك المركزي الأوروبي، في إعادة إحياء الطلب أو دفع عجلة النمو.

وفقاً لتقرير صادر مؤخراً عن مركز Orgalim البلجيكي، سجّلت الصناعات التحويلية في أوروبا تراجعاً ملحوظاً، حيث انخفض إنتاج قطاع الصناعات المعدنية بنسبة 3.3%، والإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات بنسبة 5.4%، والهندسة الميكانيكية بنسبة 5.3%. ويبدو أن عام 2025 لن يحمل مؤشرات إيجابية، إذ يتوقع تسجيل تراجع إضافي في الإنتاج بنسبة 0.5%.

تأخذ الأزمة شكلاً أعمق في دول المركز الأوروبي الصناعية، حيث يتواصل ضعف الطلب، ولا سيما في قطاع السيارات الذي يشهد انخفاضاً في المبيعات (خصوصاً السيارات الكهربائية)، الأمر الذي ينعكس سلباً على سلاسل التوريد بأكملها، ابتداءً من رقائق الحواسيب وصولاً إلى البطاريات والشواحن).

ويؤكد تقرير Orgalim أن فقدان التنافسية الأوروبية ناجم عن ارتفاع تكاليف الطاقة والعمالة مقارنة بالمنافسين الدوليين. ورغم التراجع الطفيف في أسعار الطاقة مؤخراً، لا تزال أعلى مما كانت عليه قبل عام 2022، وتستمر في الضغط على القطاعات الصناعية بشدة.

ومن المتوقع أن تنخفض معدلات التوظيف في القطاع الصناعي الأوروبي بنسبة 0.9% خلال عام 2025، مع تسجيل أكبر الخسائر في قطاعات الصناعات المعدنية والهندسة الميكانيكية. وفي هذا الإطار، بدأت شركات كبرى مثل فولكسفاغن وستيلانتيس وأودي بدراسة خفض الإنتاج أو إغلاق مصانع داخل أوروبا.

أما تقرير شركة الاستشارات الاقتصادية Oxford Economics لعام 2025، فيرصد استمرار حالة التخبط في أسواق الطاقة الأوروبية، محذراً من أن استمرار ارتفاع الأسعار سيؤدي إلى زيادة تكاليف الكهرباء للصناعات والمستهلكين، ما يعرقل تعافي القطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل الصناعات الكيميائية، التي بدأت فعلياً في تقليص إنتاجها داخل القارة.

دفع هذا الوضع بعض الشركات الكبرى إلى تقليص استثماراتها في أوروبا أو نقل نشاطها إلى الخارج. على سبيل المثال، جمّدت شركة ArcelorMittal  استثمارات بقيمة 1.7 مليار يورو، فيما تدرس شركة BASF الألمانية نقل أحد فروعها إلى السوق الأمريكية. ويعود ذلك إلى الفارق الكبير في أسعار الطاقة، إذ لا تزال الولايات المتحدة تقدم ميزة تنافسية بفضل وفرة الغاز الطبيعي الرخيص.

وفي ألمانيا، أظهر استطلاع أجرته غرف الصناعة والتجارة الألمانية DIHK، شمل أكثر من 300 شركة صناعية أن نحو 45% منها تفكر في تقليص الإنتاج أو نقل نشاطها خارج البلاد. وأكد المسؤولون في غرف الصناعة والتجارة أن أسعار الطاقة في ألمانيا لا تزال من الأعلى عالمياً، ما يجعلها غير قادرة على منافسة الأسواق الأخرى.

ويبدو الفارق في أسعار الطاقة صارخاً: في عام 2023، دفعت الشركات الأمريكية نحو 7 سنتات فقط لكل كيلوواط/ساعي، وفي الصين نحو 8 سنتات، بينما بلغت التكلفة في ألمانيا نحو 20 سنتاً. في الواقع، تدفع الشركات الألمانية التي تستهلك أكثر من 150 غيغاواط/ساعي سنوياً، ما يزيد بـ10% عن المتوسط الأوروبي، في وقت تسجل فيه إيطاليا أعلى الأسعار للطاقة، مما يقوض أي فرص حقيقية للنمو الاقتصادي.

وفي إيطاليا، ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، واصلت الصناعة تراجعها. فقد انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 0.9% في شباط 2025 مقارنة بالشهر السابق، وسجّل انخفاضاً سنوياً بلغ 2.7%. وبحسب المعهد الوطني الإيطالي للإحصاء (ISTAT)، يعتبر هذا الانكماشَ الشهريَّ الخامس والعشرين على التوالي.

وبصدد تأثيرات أزمة الطاقة، خفّضت وزارة الخزانة الإيطالية تقديرات النمو للعام 2025 إلى 0.6% فقط، بعدما كانت تطمح إلى 1.2%. ويأتي هذا في ظل ترقّب لنتائج قرار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تعليق عدد من الرسوم الجمركية، وهو ما قد يمنح إيطاليا - التي تحقق فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة - متنفساً مؤقتاً لا أكثر.

أما الوضع في فرنسا، ورغم انخفاض أسعار الكهرباء إلى النصف مقارنة ببقية أوروبا، ليس أفضل حالاً إطلاقاً. فقد شهد الإنتاج الصناعي الفرنسي انخفاضاً مفاجئاً في شهر شباط 2025 بنسبة 0.6%، بعد تراجع مماثل في شهر كانون الأول 2024. وسجّلت معظم القطاعات انخفاضاً في الإنتاج، باستثناء قطاع النقل، فيما تراجع استهلاك الأسر للسلع بنسبة 0.5%، رغم مواسم التخفيضات.

هكذا، بين أزمة طاقة خانقة وضعف القدرة التنافسية وتراجع الاستثمارات والتوترات السياسية المتزايدة، تجد أوروبا نفسها في عين عاصفة متعددة الأوجه. وبينما يزداد ظهور الأوزان الحقيقية للقوى الدولية، ينزلق الاتحاد الأوروبي شيئاً فشيئاً إلى هامش المعادلة العالمية، مدفوعاً بتبعية سياسية مكلفة، للولايات المتحدة، وواقع اقتصادي لا يرحم.