الخطة الأممية لإعادة إعمار سورية: نموذج قديم لممارسات أممية متجددة
تتزايد الانتقادات الموجهة لآليات عمل الأمم المتحدة في إدارة الأزمات الإنسانية، خاصةً في سياقات معقدة كالحرب السورية، حيث تتجلى إشكاليات التمويل الطوعي المُشتَرط، والاعتماد المفرط على الخبراء الدوليين، وغياب الشفافية. خطة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) لإعادة إعمار سورية بقيمة 1.3 مليار دولار (2025-2028) تُعد نموذجاً حيّاً لهذه التحديات، رغم ادعائها الابتكار عبر دمج التحول الرقمي وريادة الأعمال التكنولوجية. فهل تستطيع الأمم المتحدة تجاوز إرثها البيروقراطي لتحقيق استدامة حقيقية؟
ثغرات الهيكل التمويلي: بين شروط المانحين والواقع السوري
تعكس خطة سورية إشكالية التمويل الطوعي الذي تهيمن عليه دول غربية ومؤسسات مالية دولية:
- مصادر التمويل المُجزَّأة: 40% من البنك وصندوق النقد الدوليَّين (شروط مرتبطة بسياسات التقشف)، و30% من دول أوروبية (مشروطة بمعايير حقوق الإنسان)، و30% استثمارات خاصة (تركّز على مشاريع ربحية كالبنية الرقمية).
- تضارب الأولويات: بينما يحتاج 90% من السوريين لمساعدات إنسانية عاجلة، تُوجَّه 45% من الخطة للتحول الرقمي (مشاريع مثل مراكز الابتكار التكنولوجي)، مقابل 15% فقط للإسكان، و10% للزراعة. هذا الانزياح يكرّس أولويات المانحين، لا المتضررين.
- مخاطر التمويل الهش: تاريخيّاً، تتعرض مشاريع الأمم المتحدة للتجميد عند تغير السياسات الدولية (مثل تجميد الاتحاد الأوروبي 50% من مساعداته لسورية عام 2023 بسبب العقوبات).
النفقات الإدارية: فاتورة البيروقراطية الأممية
تكشف وثائق الخطة عن ثغرات منهجية:
- رواتب الخبراء الدوليين: تستهلك 25% من الميزانية، بينما لا تتجاوز حصة الكوادر السورية 8%، رغم وجود كفاءات محلية هُجّرت بسبب الحرب (أكثر من 50% من الأطباء والمهندسين السوريين خارج البلاد).
- تكاليف أمنية غير مبررة: تُخصَّص 12% من الميزانية لتأمين الفِرَق الدولية في مناطق آمنة نسبيّاً (مثل دمشق).
- مُعَدَّلات الفساد الخفي: تشير تقارير «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» إلى أن 30% من أموال الإعمار السابقة (2018-2023) فُقدت بسبب الفساد الحكومي ووسطاء الأمم المتحدة المحليين.
التناقض الاستراتيجي: بين الطموح الرقمي والواقع المُدَمَّر
تُظهر الخطة فجوة خطيرة بين الخطاب التنموي والاحتياجات الأساسية:
- بنية تحتية مُتداعية: كيف لمشاريع الذكاء الاصطناعي أن تنجح دون كهرباء مستدامة (55% من السوريين يعتمدون على مولدات خاصة)، أو إنترنت (15% فقط من السكان يتمتعون باتصال مستقر)؟
- إهمال القطاعات الحيوية: بينما تُدمَّر 70% من المرافق الصحية، تُوجَّه 5% فقط من الخطة لإعادة تأهيل المستشفيات، مقابل 20% لتدريب 5000 شاب على البرمجة!
- وهم الاستدامة: مشاريع مثل «الحكومة الإلكترونية» تفترض استقراراً سياسيّاً غائباً، بينما تُهمَل إعادة تأهيل 2 مليون طفل خارج النظام التعليمي.
التداخل السياسي: إعادة الإعمار كأداة تفاوضية
حيث لا يمكن فصل الخطة عن الصراع الجيوسياسي:
- ربط التمويل بالإصلاحات: تشترط دول مانحة (كالولايات المتحدة) ربط صرف الأموال بإجراءات سياسية غير معلنة (كالاتفاقات الإبراهيمية)، مما يحوّل الخطة إلى ورقة ضغط.
- عقبات العقوبات: رغم الإعفاءات الأممية، تعيق العقوبات الأوروبية الأمريكية استيراد معدات البناء (80% من مواد إعادة الإعمار مُدرَجة على قوائم الحظر).
- غياب التنسيق المركزي: تعمل الأمم المتحدة عبر 30 منظمة محلية موزعة بين المناطق، مما يُضعف الرقابة ويجزِّئ التنفيذ.
ما هي البدائل المُقترحة نحو نموذج إعمار عادل؟
لتجاوز إخفاقات النموذج الأممي التقليدي، تحتاج الخطة إلى:
- إعادة هيكلة التمويل:
- تحويل 40% من مخصصات التحول الرقمي إلى الإسكان والكهرباء.
- فرض ضريبة إقليمية (0.5% على واردات دول الجوار) لتمويل مستقل عن الشروط الغربية.
- توطين صناعة القرار:
- اشتراط تشكيل لجان تخطيط محلية (مهندسون، أطباء، مُعلِّمون سوريون) لإدارة 60% من المشاريع.
- استقطاب الكفاءات السورية المهاجرة عبر حوافز ضريبية.
- آليات رقابية هجينة:
- استخدام تقنيات البلوكتشين (Blockchain) لتتبع التمويل بشكل لحظي وهي تقنية دفتر حسابات رقمي لامركزي يسجل المعاملات المالية وغير المالية بشكل آمن وشفاف، ويُحدّث البيانات في الوقت الفعلي دون حاجة لوسيط (مثل البنوك أو الحكومات).
- إشراك منظمات المجتمع المدني المحلية في تقييم المشاريع.
إعمار الأوطان لا يُختزل في مشاريع «جاهزة للتصدير»
خطة الأمم المتحدة لسورية – رغم ضخامتها – تكرّس ثنائية إشكالية: استثمار في البنى الرقمية «القابلة للقياس» إعلاميّاً، وإهمال لإعادة بناء يضمن استعادة دورة الإنتاج الحقيقي في البلاد.