الاحتلال و«استراتيجية صفر صورة»
يتردد خلال المعركة الجارية، وبشكلٍ منتظم، تعبير «الرقابة العسكرية»، ارتباطاً بما يسمح أو لا يسمح جيش الاحتلال بنشره من أخبارٍ وصور وفيديوهات متعلقة بالصراع الجاري.
ويمكن فهم المسألة بصورةٍ مبسطة بأنها شكل من أشكال إدارة الحرب الإعلامية النفسية، بحيث يتم تعزيز السردية والرواية التي يقدمها المحتل، وتغيب رواية الطرف المقابل، على الأقل بالنسبة لجمهور المستوطنين، وإنْ أمكن على المستوى الإعلامي العالمي... ورغم صحة هذا الفهم، إلا أنه لا يقدم صورة وافية عن معنى «الرقابة العسكرية» وأبعادها.
لفهمٍ أوسع، ينبغي إدخال تعبيرٍ آخر، أقل تدولاً بكثير من تعبير «الرقابة العسكرية»، ولكنه في الحقيقة المبدأ الأساسي الناظم لتلك الرقابة؛ نقصد تعبير «استراتيجية صفر صورة» أو «zero picture strategy»، وهي استراتيجية معترفٌ بها بشكل شبه رسمي من جانب الاحتلال مما بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية بشكلٍ خاص، حيث بدأ ظهور التأثير الكبير للصور والفيديوهات التي تم نشرها على نطاقٍ واسع، سواء لانتهاكات الاحتلال وممارساته الإجرامية، أو لعمليات المقاومة ضده والخسائر التي تكبدها. وتعزز هذا الاتجاه بعد حرب تموز 2006، وما ظهر معها من خسائر للاحتلال وخاصة مجزرة الدبابات في وادي الحجير... ومن المفهوم طبعاً أن هذه المسألة باتت أكثر تأثيراً مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي والتلفونات الحديثة التي بات من الممكن معها لأي شخص أن يلتقط وينشر صورة أو فيديو.
وفقاً لهذه «الاستراتيجية» التي يعبر اسمها عنها إلى حد ما، أي «صفر صورة»، فإن جيش الاحتلال يفرض معايير صارمة جداً في عملية التعتيم الإعلامي، تتضمن ما يلي:
أولاً: رقابة عالية على جنوده ونشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين. وتتضمن التعليمات منع نشر أي صورة أو فيديو دون المرور عبر مقص الرقابة العسكرية.
ثانياً: رقابة شاملة على وسائل الإعلام «الإسرائيلية»، لضبط ما يتم نشره من جهة، ولتوحيد الرواية الرسمية حول الأحداث الأساسية.
ثالثاً: منع وسائل الإعلام من مواكبة أي تحركات عسكرية لجيش الاحتلال بشكلٍ كامل تقريباً، وهذا الأمر رأيناه خلال العدوان على غزة والآن على لبنان.
رابعاً: في الحالات التي يتم السماح فيها للإعلام بمواكبة أي حدث ميداني، فإن ذلك يتم ضمن رقابة شاملة من جيش الاحتلال على الصحفيين، وعلى المخرج النهائي الذي سيقدمونه.
خامساً: يجري التركيز على منع أي تسرب لأي صورة أو فيديو أو معلومة تخص تحرك القوات، وخاصة الخسائر التي تتعرض لها، سواء على الجبهة مباشرة، أو في الداخل.
سادساً: تشمل الرقابة العسكرية أيضاً فلترة الصور القادمة من الأماكن التي يعتدي عليها الاحتلال؛ من اللافت مثلاً أنه طوال العدوان على غزة، ورغم «التغطية المستمرة» لوسائل الإعلام «الإسرائيلية» لذلك العدوان، إلا أن نسبة ضئيلة جداً من الصور التي تبين حجم المعاناة والمأساة التي يعيشها الفلسطينيون قد تسربت إلى الإعلام «الإسرائيلي»... وكذلك الأمر الآن مع ما يجري في لبنان.
تتمحور سياسة الكيان الإعلامية في التعامل مع الحرب حول فكرة جوهرية أساسية، هي أنه ينبغي الإيحاء قدر الإمكان للمستوطنين «الإسرائيليين»، بأن الحرب بعيدة، وبأنها لا تصيبهم، ولكنها ضرورية في الوقت نفسه ولا مفر من خوضها... ورغم النجاح النسبي لسياسة التعتيم الإعلامي التي يتبعها الكيان، إلا أن إمكانيات التحكم الواسع بالتعتيم محدودة في نهاية المطاف، خاصة مع أصوات صفارات الإنذار التي باتت أمراً يومياً في كل أنحاء فلسطين المحتلة...
من نافل القول طبعاً، إن الكيان الذي يدعي كونه ديمقراطياً، ويقيم اعتباراً لحرية الصحافة، هو أكثر بقاع الأرض ظلمة وخطراً بما يخص النشاط الصحفي، ابتداءً من عدد الضحايا من الصحفيين، الذي بات بالمئات، ومروراً بعمليات المنع وإغلاق مكاتب الصحف والقنوات التلفزيونية ومنعها من ممارسة عملها، وإلى التحكم بوسائل إعلامه المحلية بقبضة حديدية، ووصولاً إلى الرقابة اللصيقة ليس لما ينشره جنوده فقط، بل وحتى لما يتم نشره من قبل المستوطنين عموماً... ويساعده في ذلك بلا شك عمالقة التكنولوجيا مثل فيسبوك وتويتر وغيرهما، والتي تكيف سياساتها بحيث تحظر وتمنع بأقصى حد ممكن، كل ما يمكن أن يضر الكيان وسياساته، وتروج كل ما يصب في صالحه...