ماذا وراء «نقص الذخيرة» الذي يكثر الحديث عنه في الغرب؟

ماذا وراء «نقص الذخيرة» الذي يكثر الحديث عنه في الغرب؟

بعد بضعة أشهر من بدء المعركة في أوكرانيا في شباط 2022، وبعد عامٍ من بدئها بشكل أكبر بكثير، بدأت مشاكل «نقص الذخيرة» لدى القوى الغربية، باحتلال العناوين الأولى في الصحف الغربية. وما تزال هذه المشاكل تحت الضوء الإعلامي حتى اللحظة.

يرى البعض أن المسألة لا تعدو كونها دعاية غربية، وأمريكية خاصة، لا أساس لها من الصحة. ويفسر أصحاب هذا الرأي المبالغة في الحديث عن نقص الذخيرة، بأنه حديث سياسي المقصود منه هو تبرير حجم التدخل الأمريكي والغربي المطلوب والمحسوب ضمن الأزمة الأوكرانية، بما يخدم من جهة عدم الانتقال إلى حرب واسعة وشاملة، ومن جهة ثانية إدامة الاستنزاف والاستعصاء أطول فترة ممكنة... وهو رأي ذو وجاهة إلى هذا الحد أو ذاك.

 

مع ذلك، فإن محاولة إلقاء نظرة ذات إطار زمني أوسع قليلاً على المسألة، يمكنه أن يقدم تصوراً آخر... ولكن قبل ذلك من المفيد أن نعرض بشكلٍ مختصر الأسباب التي يقدمها الإعلام الغربي بوصفها السبب في هذه المشكلة...

 

تتلخص هذه الأسباب بالأمور التالية:

  • ارتفاع الطلب على السلاح بشكلٍ كبير خلال السنوات الأخيرة، ليس بسبب أزمة أوكرانيا وحسب، بل وبسبب جملة النزاعات الجارية بالتوازي في عدة مناطق حول العالم.
  • مشاكل سلاسل التوريد المتعددة منذ ما بعد كورونا، والتي تعقد عمليات إنتاج السلاح وخاصة الذخيرة.
  • انتقال مركز ثقل عمليات الإنتاج العسكري نحو الأسلحة الأكثر تعقيداً وتطوراً، على حساب إنتاج كميات كبيرة من الذخائر التقليدية بمختلف أنواعها، وضمناً قذائف المدفعية والصواريخ على وجه الخصوص، التي ظهر فيها العجز الأكبر، في حالة أوكرانيا على الأقل.
  • مشكلاتٌ في نقص العمالة المحترفة والمدربة، في ظل ارتفاع التنافس مع قطاع الإنتاج المدني، واستقطاب هذا الأخير لأهم الكفاءات.

 

الأسباب السابقة التي يعرضها الإعلام الغربي، تبدو أسباباً منطقية إلى حدٍ بعيد، ولكنها مع ذلك، أسبابٌ ثانوية وليست أسباباً جوهرية؛ لأنها جميعها تسقط أمام سؤال واحد هو: هذه العوامل والأسباب المذكورة، كلها ذات طبيعة ظرفية، أي أنها أسباب راهنة مباشرة تتعلق بالوضع الاقتصادي والسياسي العالمي اليوم، أو خلال السنوات القليلة الماضية... ما يعني ضمناً، أن التفكير الاستراتيجي بمسألة التسلح كان غافياً طوال عقود واستفاق على صدمة ارتفاع الطلب ومشاكل سلاسل التوريد وإلخ... ما يعني أيضاً أن المخازين الاستراتيجية من السلاح بمختلف صنوفه كانت في مستوياتٍ شديدة التدني، وربما أقرب إلى الصفر! كما سنبين تالياً...

 

استراتيجية نهاية التاريخ!

تبنت شركة تويوتا لصناعة السيارات عام 1970 مبدأ في الإنتاج أسمته just-in-time أي الإنتاج تماماً في الوقت المطلوب. بكلامٍ آخر، الإنتاج على أساس الطلب وتقليل عمليات التخزين إلى أقصى حدٍ ممكن، بحيث يتم تجنب أزمات فيض الإنتاج، ويتم رفع الربحية إلى الحدود القصوى.

 

تبني مبدأ من هذا النوع في إطار الإنتاج المدني التجاري، يبدو أمراً مفهوماً، بل ومنطقياً إلى حد بعيد، وهو في الجوهر اسمٌ آخر لأحد الاتجاهات ضمن الإنتاج المخطط ضمن الفكر النظري الاشتراكي.

 

وإذا كان هذا مفهوماً في صناعات مدنية، تستهدف الربح، والربح فقط، فإنه لا يستوي إطلاقاً لدى الحديث عن الصناعات العسكرية، التي من المفترض فيها أن تضم بالضرورة فائضاً آنياً كبيراً للحروب والتهديدات المستقبلية؛ إذ لا يمكن العمل مع إنتاج السلاح على مبدأ «الطلب الآني».

 

رغم أن ما قلناه هنا قد يبدو أمراً بديهياً، إلا أن البديهيات كلها قد تعرضت لخلخلة كبرى ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين مع صعود النيوليبرالية، وبشكل أكبر مع انهيار الاتحاد السوفياتي...

 

ابتداءً من التسعينيات، بات مبدأ «Just-in-time» مبدأً مطبقاً ومتبعاً لدى المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وكذلك في شركات إنتاج السلاح الغربية عموماً. وجاء ذلك على خلفية تنظيرات نهاية التاريخ، التي بنيت على فكرة مفادها هو أن الولايات المتحدة قد انتصرت الانتصار النهائي، وما تبقى من حروب لخوضها، هي حروب صغيرة بعيدة يمكن فيها للجيوش القليلة العدد، ذات السلاح النوعي المتطور والمدمر بشكلٍ كبير، أن تحسم أي معركة ببساطة، وضمناً، فإن حروباً «تقليدية» متناظرة بين جيوش، لن تحدث في المستقبل؛ إذ ليس هنالك في العالم بأسره جيش يمكن أن يتم اعتباره جيشاً بكل ما للكلمة من معنى في مواجهة الجيش الأمريكي.

 

هذا جانب في المسألة، متعلق بتصورات نهاية التاريخ التي سيطرت على العقل الأمريكي والغربي مع انهيار الاتحاد السوفياتي. الجانب الثاني متعلق بصعود الليبرالية الجديدة بأجندتها الكونية الشاملة التي تتضمن ليس فقط تفتيت الشعوب وتذريرها إلى أقصى حدٍ ممكن، بل وأيضاً تدمير أجهزة الدولة التقليدية، ليس لدى خصومها فقط، بل وأيضاً في البلدان التي تعتبرها مقراتها الأساسية، أي البلدان الغربية؛ إذ لم يكن مطلوباً خصخصة كل قطاعات الإنتاج المدني فحسب، بل وأيضاً خصخصة الإنتاج العسكري، وحتى الجيش نفسه... هذا ما يفسر جزئياً على الأقل، الارتفاع الفلكي في أعداد وأحجام شركات الأمن الخاصة الكبرى خلال العقدين الماضيين، من طراز بلاك ووتر مثلاً.

 

وبذلك، فإن عمليات إنتاج السلاح والذخائر، ورغم أنها طوال الوقت كانت صناعة رابحة بشكل كبير، إلا أنها باتت صناعة ربحية بالدرجة الأولى، وليست صناعة استراتيجية وذات أهدافٍ استراتيجية تنطلق من مصلحة دولة من الدول، بل تنطلق من مصالح النخب المالية الحاكمة، ومن مصالح شركات الأسلحة الكبرى، التي تحولت إلى دولٍ داخل الدول...

 

يمكن أن نضيف إلى ذلك أن النموذج السائد في الصناعات المدنية الرأسمالية ككل، والمسمى نموذج «الأمثلة -Optimization»، والذي يضع الربح عبر تقليل التكاليف هدفه الرئيس هو الوصول إلى هدفٍ أقرب ما يمكن من المطلوب، وليس المطلوب تماماً كما هو الأمر في نموذج (أنظمة التحكم- Control systems)، فبات نموذج «الأمثلة» أيضاً النموذج السائد في الصناعات العسكرية في الغرب...

 

العطب الاستراتيجي في عقل النخب الأمريكية والغربية، والناجم عن ضيق أفق مذهل في رؤية التاريخ، والذي صَوَّر لهذا العقل أن التاريخ قد انتهى فعلاً، هو السبب الأكثر جوهرية لما يتم الحديث عنه حالياً بما يخص أزمات نقص الذخيرة...