من يريد «خروج المارد»؟
خرج مساعد الرئيس الروسي للشؤون البحرية نيكولاي باتروشيف منذ أيام بتصريحات مثيرة نبّه فيها إلى إمكانية حيازة اليابان أسلحة نووية وقدرات صاروخية متطورة بقواها الذاتية. تصريحات المسؤول الروسي بدت للبعض مبتورة لا سياق لها، فهل هي كذلك فعلاً؟
ترتبط اليابان بأذهان الكثير من الناس بصور الحياة المسالمة والإنجازات العلمية، حتى تكاد تغيب أي أخبار عن النشاطات العسكرية لليابان، وهو ما يعزز صورة «البلد المسالم» متجاهلين بذلك تاريخها الاستعماري الذي، وإن كان غائباً عن المشهد، يظل جزءاً من التجربة التاريخية لشعوب آسيا والعالم ولا يمكن إخفاؤه أبداً.
لمحة من الذاكرة
الحروب التي دخلتها اليابان أو كانت طرفاً أساسياً فيها لا تعد ولا تحصى، لكن بعض هذه الحروب يكشف طبيعة الدولة ودورها في المنطقة قبل الحرب العالمية الثانية، إذ دخلت اليابان في حرب طويلة مع الصين «الحرب اليابانية الصينية الأولى»، ثم بعد سنوات قليلة دخلت في حرب مع روسيا الإمبراطورية، بعدها احتلت كوريا وظلت جزءاً من المستعمرات اليابانية حتى نهاية الحرب في 1945، ويضاف إلى هذه القائمة غزو منشوريا، ثم الحرب اليابانية الصينية الثانية، لتتحول بعدها اليابان إلى مرحلة جديدة بعد التوقيع على الميثاق الثلاثي مع إيطاليا وألمانيا النازية وأصبحت الإمبراطورية اليابانية جزءاً أساسياً من تحالف دول المحور.
وكما هو معروف، كانت اليابان ضحية للجريمة الأمريكية في هيروشيما وناغازاكي التي سرّعت من استسلام اليابان وتوقيعها معاهدة الاستسلام على متن بارجة أمريكية في خليج طوكيو في أيلول 1945، وظلّت بعدها تحت الاحتلال الأمريكي حتى عام 1952، وفرضت واشنطن خلال هذه المدة دستوراً جديداً عليها ودخل حيّز التنفيذ في 1947. تنص أحد أشهر مواده (المادة التاسعة) على التخلي عن الحرب، ومنع الاحتفاظ بقوات عسكرية لأغراض هجومية وتمنع اليابان من حيازة أي وسائل عسكرية يمكن أن تستخدم لأغراض أخرى غير الدفاع عن البلاد.
ماذا عن تصريحات باتروشيف؟
في حديثٍ لصحيفة «روسيسكايا غازيتا» الرسمية الروسية قال مساعد الرئيس الروسي: «تتمتع اليابان حالياً بالقدرة على إنتاج أي أنظمة أسلحة بقواها الذاتية، بما في ذلك القدرة على إنتاج أسلحة نووية وصواريخ باليستية عابرة للقارات»، واعتمد باتروشيف في تصريحاته هذه على جملة من المسائل أولها هو دليل ملموس ومعروف منذ 2011، فبعد حادثة التسرب النووي في محطة الطاقة النووية في فوكوشيما وجد العلماء نظير «الثوريوم-232» الذي لا ينسجم وجوده مع الأنشطة النووية المعلنة لليابان، فنظير الثوريوم هذا وبالرغم من كونه لا يعتبر مادة مشّعة قوية إلا أنه يتحول وبعد تعريضه إلى نيوترونات ضمن سلسلة من التفاعلات النووية إلى اليورانيوم-233 المشع، الذي يستخدم كوقود نووي ومكونٍ كافٍ لإنتاج أسلحة نووية.
معلومة كهذه قد تبدو عديمة القيمة إلا أنّها وعند وضعها ضمن سياقها السياسي تبدو خطرة ولا يمكن تجاهلها أبداً.
فاليابان ظلّت خاضعة للولايات المتحدة الأمريكية التي كانت قادرة على التحكم بسياستها إلى درجة كبيرة وفي مسائل حساسة، ومع اشتداد المنافسة والمواجهات العالمية بين الشرق والغرب، رأت واشنطن أن «القوى الشريرة» التي جرى حبسها بعد الحرب العالمية الثانية يمكن أن تكون نافعة في مواجهة مع روسيا والصين، وهو ما بدأ على شكل «مرونة» أكبر في التعاطي مع الضوابط على النشاط العسكري لكل من اليابان وألمانيا حتى شهدنا دبابات ألمانية تسير فوق وحل أوروبا لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي اليابان حاولت واشنطن تدريجياً تغيير الطبيعة الدفاعية للقوات اليابانية وذلك بالتعاون مع تيارات قومية داخل اليابان لديها طموحات بالتخلص من كل آثار الهزيمة، ليلتقي «المنتصر والمهزوم» ويبدأا صفحة جديدة من التعاون.
وبالعودة لتصريحات باتروشيف، زاد عدد التدريبات البحرية المشتركة بين اليابان وحلف شمال الأطلسي وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين بمقدار 30 ضعفاً في عام 2024، وهذه الأرقام ما هي إلا جزءٌ بسيط من الأنشطة العسكرية المتنامية لليابان، فقد بدأت حكومة رئيس الوزراء السابق شينزو آبي في 2014 «بإعادة تفسير المادة التاسعة» وبدأ الحديث عن «الدفاع الجماعي عن النفس» الذي يسمح لليابان بأن «تساعد حلفاءها» حتى لو لم تتعرض هي نفسها إلى هجوم، هذا التعديل جهّز الأرضية في حينه لتمرر الحكومة قوانين جديدة لتوسيع دور «قوات الدفاع الذاتي» في عمليات خارج حدود اليابان، ثم بدأت محاولة أكبر لتعديل المادة 9 بشكلٍ جذري إلا أن هذه الجهود لم تصل إلى نتيجة نهائية بعد.
الأرضية القانونية الحالية في اليابان هي نتيجة طبيعية لنهج ثابت للنظام السياسي وبدعم ومباركة أمريكية، وعلى هذا الأساس تتسارع خطوات اليابان التي بدأت تتحول إلى شريك للغرب في الميادين العسكرية والأمنية وهو ما يعني قيمة مضافة كبيرة وخصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن اليابان حالياً تمتلك ثامن أقوى جيش في العالم وتملك قاعدة صناعية تقنية متطورة ودخلت باتفاقات تعاون عسكري أبرزها «اتفاق كواد» مع الولايات المتحدة الامريكية وأستراليا والهند واتفاقات مشابهة مع بريطانيا تعد الأولى من نوعها منذ 100 عام، تسمح لبريطانيا بنشر قوات مسلّحة على الأراضي اليابانية، وكذلك تضمن الدفاع المشترك في حال تعرض أي من البلدين لأي هجوم، وهناك بطبيعة الحال تعاون واسع مع الولايات المتحدة لكن المفارقة كانت أن الشراكة والتعاون العسكري بين اليابان وألمانيا يشهد نمواً ملحوظاً ما يذكر بتاريخ دموي لا يجب السماح بتكراره!
يظهر من التفاصيل السابقة أن قدرات بلد مثل اليابان على أن تتحول إلى طرف مؤثر بالصراع، هي إمكانية عالية جداً، وهذا الاحتمال لم يكن وارداً إلا حين رأت الولايات المتحدة ضرورة لاستثمار هذه النزعات الدفينة في بلدان مثل اليابان أو ألمانيا، وذلك رغم المعارضة الشعبية الواسعة داخل تلك البلدان، فالعقبة الكبرى اليوم أمام أي نظام حاكم في اليابان هي في إقناع الشعب الياباني بتكرار تجربة مريرة، وذلك لخدمة المصالح الأمريكية وبعيداً كل البعد عن مصلحة الشعب الياباني! المشكلة الأكبر تكمن في أن أنشطة من هذا النوع لا يمكن أن تمر دون رد روسي وصيني، ففي حديث لرئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا قال إن «الأمن في أوروبا والمحيط الأطلسي لا يمكن فصله عن الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ»، معتبراً أن هذا التنسيق «يهدف لمواجهة التعاون العسكري المتنامي بين روسيا وكوريا الشمالية وتحركات الصين المتعلقة بالغزو الروسي لأوكرانيا» وهذا ما يجعل موقع اليابان والدور الذي أوكل إليها واضحاً لا يحتاج الكثير من التحليل.