عن قصص الأطفال الغربية والارتباك الشديد في أوروبا
تستمر الأنباء والتصريحات الكثيفة حول مستجدات التحقيق في تفجير خط غاز «السيل الشمالي 2» وبالرغم من أن عودة الأضواء على هذه القضية لا تكشف بالطبع عن صحوة مفاجئة في الغرب، إلّا أنّ مراقبة ارتدادات الموضوع على عدد من المستويات توضح جملةً من المسائل هي أبعد من تفجير خط الغاز الاستراتيجي أو من يقف وراءه فعلاً!
المعروف أنه منذ اللحظات الأولى التي تلت التفجير حتى توالت الاتهامات الغربية الموجَّهة إلى روسيا بضلوعها فيه، وبالرغم من أن قيام موسكو بذلك يشبه إلى حد كبير من يطلق النار على أقدامه، ظلّت الرواية تبدو منطقية بالنسبة لوسائل الإعلام والمسؤولين الغربيِّين، الذين أعلنوا عن البدء في تحقيقات، ولكن استثنوا روسيا منها لأسباب سياسية متجاهلين أنّها طرفٌ أساسي في مشروع خط الغاز وأنّه من الطبيعي أن تكون حاضرة ومشاركة في التحقيقات.
كيف تطور الموقف
بعد استهداف خط الغاز، وصف المستشار الألماني أولاف شولتس العملية بأنها تصعيد خطير ويجب التحقيق حوله، فيما اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان آنذاك بأن الهجوم هو «اعتداء غير مقبول على البنية التحتية الحيوية»، وقبل أن تبدأ التحقيقات بشكلٍ رسمي اتّضح أنّ المزاج العام في أوروبا والغرب يميل إلى استبعاد روسيا أوّلاً ومن ثمّ الترويج إلى تورّطها في العملية، وانتشر في الصحف الأمريكية والبريطانية وغيرها مزاجٌ عام وتصريحات عن «مسؤولين أوروبيين» تميل لاتهام روسيا في العملية.
روسيا في المقابل كانت لديها قناعة ثابتة عبّر عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فوصف التفجير بأنه فعل إرهاب دولي، ووجَّه أصابع الاتهام إلى «الأنغلوساكسونيين»، فالعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا لم تعد تكفي بالنسبة لهم بحسب تصريحات الرئيس الروسي ولذلك انتقلوا إلى التخريب.
ثم جاء الحدث الثاني عندما كشف الصحفي الأمريكي سيمور هيرش المعرف بكونه مقرّباً من مسؤولين رفيعي المستوى، في تقرير نشر في شباط 2023، قال فيه إنّ الولايات المتحدة تقف وراء تفجير خطَّي «السيل الشمالي». وأشار إلى أنّ العملية تمت بتوجيهات من إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وقال أيضاً إنّ العملية تم التخطيط لها منذ أواخر عام 2021 وأوائل عام 2022 من قبل فريق من وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بمشاركة من البحرية الأمريكية. وأفاد بأن الولايات المتحدة نسَّقت مع النرويج في تنفيذ التفجير.
ارتدادات ذلك داخل أوروبا
أمّا اليوم فتبدو القضية أكثر تعقيداً ممّا كانت عليه سابقاً، فالعرض السابق يبدو متّسقاً مع طبيعة العلاقة المتوترة بين روسيا والغرب، لكن ما جرى الكشف عنه مؤخَّراً يشير إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر في العلاقة بين الدول الغربية نفسها، وبينها وبين الولايات المتحدة، فملخَّص الرواية الحالية المتداولة في الغرب، يقول إنّ مجموعة من الغوّاصين الأوكرانيين قاموا بتفجير خط الأنابيب، ثم تبدأ التشعّبات في القصة، فهناك من يقول إنّ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي كان المنفِّذَ الفعلي للعملية بالتنسيق مع القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية فاليري زالوجني، وهناك رواية أخرى تقول إنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية علمت بالعملية قبل تنفيذها وطالبت زيلينسكي بوقفها وإلغائها إلّا أنّ زالوجني رفض إلغاء العملية «وعصى الأوامر» لا بل أدخَلَ تعديلاتٍ عليها وقام بتنفيذها!
الرواية التي يجري تداولها في الغرب اليوم تصلح سلسلةَ قصصٍ للأطفال، وهذا واضح لا يحتاج الكثير من التحليل، فالقصة يجري تغييرها يومياً وتتبنّى كل دولة نسختها الخاصة الملائمة، وترفض ألمانيا نشر نتائج التحقيقات أو تسليمها إلى الطرف الروسي، ما يعني أنّ كلَّ ما يجري تداوله ربما يكون قطعة بسيطة من التحقيق المزعوم. لكن ما يثير الانتباه في كل ذلك هو ردود الفعل المتتالية وهو ما يحتاج إلى إعادة ترتيب لكل الأفكار السابقة.
واشنطن المشتبَه به الأول!
تفجير خط الأنابيب هو اعتداء خطير على البنية التحتية الأوروبية ولكنه اعتداء أيضاً على أحد التجسيدات المادية الملموسة للروابط الاقتصادية بين روسيا وأوروبا، وهي الروابط التي جرى استهدافها أمريكيّاً بشكل معلَن، فواشنطن رفضت هذه المشروعات، وانتقلت من إعلان الموقف دبلوماسياً لفرض عقوبات على المشروع في كانون الأول 2019، ثم جرى تشديدها في فترات لاحقة، وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في شباط 2022 أنّه «إذا غزت روسيا أوكرانيا، فلن يكون هناك مزيدٌ من (السَّيل الشمالي 2). سنضع حدّاً له». ولهذا السبب كان واضحاً في موسكو أن عملية بهذا الحجم لا يمكن أن تنفَّذ إلّا على أعلى المستويات، وأن المخطِّط الأساسيّ لها هم «الأنغلوسكسون» بغض النظر عن هويّة المنفِّذ.
وقوف الولايات المتحدة وراء التفجير يعني أنّها استهدفت «حلفاءها الأوروبيين» وأضرّتْ بمصالحهم، وأضرّتْ بها بشكلٍ بالغ، ما يستوجب بطبيعة الحال ردّاً من الدول الأوروبية المتضرِّرة، من المفترض أنْ يشمل بحده الأدنى إعادة النظر بكل العلاقة مع الولايات المتحدة، لكن موقفاً سياسيّاً بهذا الحجم يبدو أكبر من قدرة المسؤولين الأوروبيين الذين اعتادوا التصرّف كأتباعٍ لمركز العمليات في واشنطن، فلذلك كان من المطلوب بالنسبة لهم إبعاد الولايات المتحدة عن الشُّبهات، لأنّ عكس ذلك من شأنه أنْ يضع الدول أوروبية أمام استحقاقات كبيرة أمام شعوبها أوّلاً، وخصوصاً أن مهمتهم الأساسية هي الدفاع عن مصالح هذه الشعوب، لكن كل ذلك لا يجيب عن سبب توجيه اتهامات لأوكرانيا الآن؟!
انعكاسات وارتدادات
اتهام أوكرانيا وتحديداً الرئيس بالمسؤولية يمكن أن يمهّد لإعدامه سياسياً وإبعاده عن الواجهة، وربما البحث عن بديل ملائم لمرحلة جديدة، ولكنه يمكن أيضاً أنْ يتحوّل إلى مقدّمة منطقية لإيقاف الدعم الغربي لأوكرانيا، وبدء انسحابٍ تدريجيّ على أساس أنّ كييف تورّطت بعمل عدائيّ يصنَّف عمل حربٍ ضد دول كبرى في الاتحاد الأوروبي. ومن جهة ثانية تعكس تفاعلات القصة داخل أوروبا تصدّع العلاقة بين دولها، فبينما سارعت دولٌ مثل تشيك لاعتبار استهداف أوكرانيا لخطّ الغاز هدفاً مشروعاً، وهو ما قاله الرئيس بيتر بافيل في مقابلة مع وسيلة إعلام محلّية، وفي بولندا رفضت السلطات التعاون مع الحكومة الألمانية لإلقاء القبض على أحد المتَّهمين، الذي غادر البلاد، ونقلت تصريحات عن مسؤول بولندي قال فيها إنّ «منفّذي العملية يجب منحهم ميداليات وليس اعتقالهم»! مواقفُ كهذه رفضها الممثل الرسمي لمجلس الوزراء الألماني. وقال رئيس جهاز الاستخبارات الفيدرالية الألمانية السابق إنّ «الرئيس الأوكراني ورئيس بولندا قد اتفقا على الأرجح لتفجير السيل الشمالي» وعلى هذا الأساس طالب حكومة بلاده بطلب تعويضات من الدول المتورّطة!
في الختام
تصريح وزير الخارجية الروسي في ظلّ هذه الفوضى كان واضحاً ومكثَّفاً إذْ قال: «لم يكن الأوكرانيّون قادرون على تنفيذ هجومٍ إرهابيّ ضدّ السيل الشمالي دون مساعدة أمريكية... الآن بدأنا نرى محاولاتٍ لتحميل المسؤولية لمجموعة من الضبّاط المخمورين. حتى لو كان أحد المذكورين في الصحافة الألمانية أوكرانيّاً متورّطاً بطريقة ما، فمن الواضح أنّه لم يكن بإمكانه تنفيذ هذه العملية بمفرده، ومن الواضح أنّ تنفيذ مثل هذا الهجوم الإرهابي كان بأمر من القيادة العليا، قيادة الغرب، أيْ واشنطن».
تحاول الدول الأوربية الاستفادة من هذه التسريبات إمّا لتصفية الحسابات البينيّة فيما بينها، أو لإعطاء ذريعة لتلك الدول التي بدأت تُظهِر تَملمُلاً من التورّط الأوروبي في هذه الحرب، ولهذا الأمر تُسارع واشنطن لتبرئة القرار السياسي الأوكراني وحصر تنفيذ العملية بشخصيات تصرّفت بشكلٍ «منفرد»، وذلك لسحب أيّ ذريعة يمكن أن تقدَّم مستقبلاً.
ما سبق يؤكِّد أنَّ تصدّعات الجبهة الأوروبية تزداد تحت تأثير الواقع السياسي العالمي، وستظل هذه القصة خاضعة للتجاذبات حتى تتكشّف الأغراض العميقة من كشف هذه المعلومات على شكل شذرات متفرّقة.