ماذا وراء التلويح الأوروبي بعقوبات على «إسرائيل»؟
صدرت مؤخراً تصريحات غير مألوفة عن بعض المسؤولين الأوروبيين حول إمكانية فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على «إسرائيل» إذا لم تلتزم بقرار محكمة العدل الدولية. ويمكننا تسجيل الملاحظات التالية حول الدوافع الممكنة لهذا السلوك وما المراد منه.
بدأت خلال شهر أيار الماضي تصريحات لعدة مسؤولين أوروبيين تقترح عقوبات ضد «إسرائيل» على خلفية حربها على غزة وعدم الامتثال لقرارات محكمة العدل الدولية وخاصةً المتعلقة بوقف الهجوم على رفح، وتجاهلها من قبل جيش الاحتلال المستمر بارتكاب المجازر، بما فيها حرق مخيم للنازحين في رفح.
فمع نهاية الأسبوع الأول من أيار كشف رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو أن حكومته تدرس فرض عقوبات تجارية على «إسرائيل» رداً على حربها المستمرة في قطاع غزة، معرباً عن «قلقه إزاء تصاعد العنف وارتفاع أعداد الضحايا من المدنيين». وستشمل العقوبات المقترحة، كما أوضحها دي كرو حظر واردات المنتجات من مستوطنات الاحتلال في الضفة الغربية، منها سلع مثل زيت الزيتون والتمور والنبيذ.
كذلك دعت دول مثل أيرلندا وإسبانيا ومالطا وسلوفينيا ولوكسمبورغ إلى إعادة تقييم علاقة الاتحاد الأوروبي مع «إسرائيل»، ووقف مبيعات الأسلحة لها، والحث على وقف فوري لإطلاق النار. ووزير الخارجية الإيرلندي مايكل مارتن أكدّ أنّ بلاده ستدعم هذا التوجه، إذا رفضت «إسرائيل» الامتثال لحكم محكمة العدل الدولية بوقف الحرب في رفح فوراً.
بالمقابل تعوّل «إسرائيل» على إجهاض عقوبات كهذه على مستوى الاتحاد الأوروبي مستندةً إلى معارضة أعضاء رئيسيين في الاتحاد، ومنهم ألمانيا وإيطاليا إلى جانب دعم النمسا والمجر لـ«إسرائيل». وكان ملحوظاً أن الخطاب الألماني الرسمي خصوصاً، كما يظهر من نقاشات على محطة DW الألمانية الرسمية، يركّز على فكرة أنّ قرارات كهذه تحتاج إجماعاً عليها ويرجّح بأنّ ألمانيا على الأقل ستقف في وجه تمريرها، وبالتحديد يجري الحديث في الإعلام الألماني الرسمي بما مفاده أنّه: إذا كانت العقوبات على نتنياهو فقد تكون مقبولة ولكن ليس على «إسرائيل». نجد انعكاس ذلك مثلاً في تصريحات المتحدث باسم المستشار الألماني أولاف شولتس بأن ألمانيا ستلتزم بقرار محكمة الجنايات الدولية بشأن اعتقال نتنياهو.
ولذلك يبدو كيان الاحتلال معوّلاً على ألّا يتم تبنّي العقوبات عليه على مستوى الاتحاد على الرغم من عدم استبعاده إمكانية فرض عقوبات من دول فردية. وبحسب صحيفة غلوباس «الإسرائيلية» يعتبر الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر لـ«إسرائيل»، وبلجيكا هي رابع أكبر شريك لها.
الدوافع المحتملة وراء التلويح بالعقوبات
أولاً- هذه التصريحات الأوروبية الجديدة وغير المسبوقة –بغض النظر عن النوايا خلف بعضها إن كانت جدّية أم مناورة– فإنّ ما يمكن تأكيده هو أنها في جانب منها تعبّر عن تنامي انقسامٍ سياسي داخل الاتحاد الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية ليس بعيداً عن صلته كذلك بالخلافات الداخلية حول دور أوروبا في العالَم عموماً وخاصةً مسألة تبعيّتها أو استقلاليتها عن واشنطن. لذلك يبدو أن نتائج السابع من أكتوبر والتي لمّا تتجلّى بكامل هيبتها وأهمّيتها بعد، سوف تدقّ إسفيناً إضافياً في تماسك الاتحاد الأوروبي بوصفه إحدى المؤسسات الإمبريالية لعالَم واشنطن أحاديّ القطب، يُضاف إلى الإسفين الذي نتج عن الحرب في أوكرانيا.
ثانياً- ربما يكون لبعض السلطات الغربية الداعمة للكيان تاريخياً مصلحة في الظهور بمظهر المستعد لمناقشة فكرة العقوبات على الكيان –بغض النظر عن مدى جدّيتها- وذلك من باب تخفيف الضغوط عن نفسها وخاصّةً من احتجاجات شعوبها المتضامنة مع الشعب الفلسطيني ضد الإبادة الجماعية التي يتعرض لها، ولا سيّما أنّ هذه السلطات، ومع دخول الانتفاضات الطلابية في أمريكا وبعض الدول الأوروبية على خط الصراع، تستشعر مخاطر من تصاعد الاحتجاجات بما يتجاوز إطار القضية الفلسطينية لتحمل جنين تهديدات داخلية أكبر للمنظومة الرأسمالية الغربية، وخاصةً حول القضايا الاقتصادية-الاجتماعية، التي تشكل المحور الأساسي لأزمة العالَم أحادي القطب المتداعي وخاصةً منذ منعطف «الركود الطويل» الرأسمالي المستمر منذ 2008 وحتى الآن.
ثالثاً- في سياق متصل وضمن الإطار التفسيريّ نفسه المتعلّق بالتراجع الأمريكي-الغربي العامّ والمتسارع، في مقابل الانزياح الحاصل شرقاً (باتجاه روسيا والصين وحلفائهما) للزخم الجديد دوليّاً لحلّ القضية الفلسطينية واستحقاقات القانون الدولي بشأنها، بما فيها حقوق الشعب الفلسطيني في إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة وعودة اللاجئين – في هذا السياق يمكن فهم أيّ تصريحات أوروبية أو غربية جديدة وغير مألوفة تنتقد «إسرائيل» –إلا إذا استثنينا بعضها الذي اعترف بالدولة الفلسطينية، مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج– على أنها تعبّر جزئياً كذلك عن اضطرارهم للظهور أمام العالَم مع بعض مساحيق «التَجميل» لوجههم التاريخي القبيح الذي لطالما تميّز بالانحياز المطلق للكيان الصهيوني وجرائمه، ولسان حالهم يقول عسى ولعلّ أن يبقى لهم دورهم السابق في ملف التفاوض بين الفلسطينيين والاحتلال، وذلك ليس من أجل الحلّ العادل بل بالذات من أجل المماطلة سعياً لتصفية القضية على حساب الشعب الفلسطيني لأنّ الحل العادل سيعني في نهاية المطاف نزع الطبيعة الاحتلالية لـ«إسرائيل» بوصفها أهمّ وكيل و«مندوبٍ سامٍ» لاستعمارهم الإمبرياليّ المستمرّ للمنطقة ونهبها والهيمنة عليها وإجهاض فرص نهوضها.