اتفاق صيني-سعودي… الدولار ضحية التبادل بالعملات المحلية
شهدت العلاقات الصينية-السعودية تطوراً واضحاً في السنوات القليلة الماضية، وبالنظر إلى مجالات التعاون المشترك بين البلدين وجوهره، كان من السهل التنّبؤ بشكل التطور اللاحق، وعلى هذا الأساس جاء الإعلان عن الاتفاقية الجديدة للتعامل بالعملات المحلية متوقَّعاً ضمن سياق التطور الطبيعي، ومع ذلك لا يمكن قراءة هذا الإعلان إلا بوصفه نقطةً نوعيّة فارقة في العلاقات الثنائية.
أعلنَ البنك المركزي السعودي "ساما" والبنك المركزي الصّيني "بنك الشعب" وبشكلٍ متزامن التوقيعَ على اتفاقٍ لمقايضة العملات المحليّة، بما يعادل 50 مليار يوان صيني، أيْ حوالي 7 مليارات دولار، ومن المفترض أنْ يسري الاتفاق لمدّة ثلاث سنوات قابلة للتمديد بموافقة الطرفين.
بالأرقام
لا بدّ لنا في محاولة فهم حجم ومعاني هذا الاتفاق أنْ نعرضَ بعض الأرقام التي توضّح طبيعة العلاقة التجارية بين البلدين، ففي الوقت الذي يميل فيه الميزان التجاري لصالح الصين في العلاقات مع الكثير من دول العالم، تبدو الصورة مختلفة كلياً مع السعودية، التي تعتبر المورّد الأساسي للنفط لصالح الصين وغيرها من الدول، وهذا ما جعل الميزان التجاري يميل لصالح السعودية، التي بلغت صادراتها إلى الصين 66.6 مليار دولار في عام 2022، بينما بلغت واردات السعودية من الصين 44 مليار دولار في العام نفسه، بفائض يقدَّر بـ 26 مليار دولار لصالح السعودية.
وفي السياق ذاته بدا بشكلٍ واضح أنّ الرياض سعت لتطوير علاقاتها مع بكين، خلال العقد الماضي، إذ كانت حصّة الصين من تجارة السعودية الخارجية 13.1% بينما ارتفعت العام الماضي إلى 17.7%. وأشار بعض المحلِّلين الاقتصاديّين إلى أنّ إجمالي التبادل التجاري بين البلدين وصلَ في العقد الماضي إلى 667 مليار دولار، ويتجاوز هذا الرقمُ حجمَ التبادل التجاري بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية في الفترة نفسها بـ 1.5 مرة، وهو ما يمكن من خلاله فهم الأهمية الاقتصادية للعلاقات السعودية-الصينية.
في المعاني السياسية
بالعودة إلى الاتفاق الأخير، وبالنظر إلى الأرقام السابقة، يبدو أنّ المعلَن اليوم هو حصّة تبادل بالعملات المحلّية بقيمة 7 مليارات دولار، ما يعتبر رقماً بسيطاً إذا ما جرت مقارنتُه بالرّقم الإجمالي 107 مليار دولار. لكن مقارنةً من هذا النوع تبدو شكليّةً وخالية من أيّ معنى سياسي. فيجب في البداية الإشارة إلى أنّ السعودية تشكّل الدعامة الأهمّ لنظام البيترودولار، وعلى هذا الأساس لا يمكن إهمالُ أيّ اتفاقيةٍ للتبادل بالعملات المحلّية بين السعودية وأيِّ دولة ثانية، وفي هذه الحالة بالتحديد تبدو الإشارة السياسية واضحة، إذ إنّ الرياض أبرمت هذا الاتفاق مع أكبر مستهلك عالمي للنفط، الصين، ورغم أنّ الإعلان لم يخصّ النفط بالذِّكر إلا أنّه لم يستثنِه أيضاً، ما يؤكّد إمكانية إتمام صفقات نفطية بالعملات المحلّية بين البلدين في القريب العاجل، وهو ما يشكّل تهديداً حقيقياً على هيمنة الدولار العالمية، فعلى الرغم من أنّ كثيراً من الدول اتجهت للتّقليل من حصة الدولار في تجارتها الخارجية وهو ما قلَّلَ الطلبَ على الدولار حتماً، إلا أنّ إنهاء الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي بشكلٍ حاسم لا يمكن أن يتمّ إلا عبر تحطيم البيترودولار. وهي المهمّة التي لا يمكن إتمامُها بشكلٍ ناجز دون وجود السعودية وغيرها من كبار منتجي النفط في العالم.
المبرِّرات الاقتصادية التي يقدّمها المحلّلون الاقتصاديون تحاولُ وصفَ الخطوة بأنها إجراءٌ تقنيٌّ بحت من شأنه أنْ يضمنَ استقراراً أكبر في أسواق البلدَين ويقلِّل من الآثار الخطيرة لسياسة رفع أسعار الفائدة التي ينتهجُها الفيدراليّ الأمريكي. وغيرها من النتائج التي لا يمكن إنكارُها بالطّبع، لكنَّ ما يجعل الإعلان السعوديّ-الصيني تطوُّراً نوعيّاً هو أنّه أوّلُ اتفاقٍ معلَن بين السعودية (أكبر مُصدِّر للنفط) والصين (أكبر مستهلك) للتبادل بالعملات المحلّية، وإنْ كانت المليارات السَّبعُ المعلَنُ عنها تُعتَبَر نسبةً ضئيلة من حجم التبادل الثنائي إلّا أنها قابلةٌ للتوسُّع في السنوات القادمة، وتعتبر في الوقت نفسه بمثابة "إعلان نوايا" من البلدين، وتحديداً بعد أنْ أعلنت مجموعةُ بريكس قبولَ عضوية السعودية في المجموعة الموسَّعة، ما يعطي مؤشِّراً على حجم وطبيعة التنسيق بين البلدين، وتأثير ذلك على أسواق الطّاقة من جهة والسياسات المالية المتَّبَعة في عددٍ كبيرٍ من الدُّوَل، والأهمّ من ذلك تأثيره على وزن وحصّة الدولار الأمريكي على المستوى العالمي.