في عصر الانتصارات… لا مكان لأوهام تهجير القطاع أو إنهائه
تُغيّبُ قسوة مشاهد القصف الصهيوني على القطاع، والحديث المستمر عن «عملية برية» بعض المسائل الجوهرية، فالتغطية الإعلامية الكثيفة والكاميرات التي تتنقل بين مواقع غارات جيش الاحتلال، وبالرغم من أهميتها، تقدّم الحدث بشكلٍ مجتزء؛ فالحرب التي أعلنها جيش الاحتلال بعد عملية المقاومة في 7 تشرين الأول، والخسائر الكبرى التي يتكبدها مع محاولاته اختراق القطاع، كانت دليلاً قاطعاً على أن أحلام الصهاينة بأن «يبتلع البحر القطاع» لم تتحقق طوال عقدين من الزمن.
في العام 1992 صرّح الصهيوني المعروف ورئيس وزراء الكيان الأسبق إسحاق رابين أنه «يتمنى لو يصح من النوم ليجد أن غزة قد ابتلعها البحر». كلمات رابين هذه كانت صرخة يائسة أمام عمليات المقاومة المستمرة التي فرضت على قوات الإحتلال لاحقاً في 2005 الانسحاب من قطاع غزة ليكون أول مساحة محررة من أرض فلسطين بعد سلسلة طويلة من الانتكاسات، وتحوّلت صور إخلاء المستوطنات هناك في مقابل استعادة الشعب الفلسطيني لجزء من أراضيه المحتلة إلى مشاهد أيقونية لا تنسى، وجسّدت لوحةً لعصر جديد لا مكان فيه لهزائم جديدة.
برّر الاحتلال انسحابه حينها بأنه «الخيار الأمني الأفضل»، فبدلاً من التكلفة الباهظة لضمان أمن مستوطنيه في غزة، هجّر عشرات الآلاف منهم، وفرض حصاراً خانقاً على القطاع. لكن مرور مدّة تقارب عقدين من الزمن أثبتت أن مساحة تبلغ 360 كم مربع تحوّلت إلى منصة جدّية للمقاومة الفلسطينية، التي لم تر في هذه الكيلومترات القليلة إلا نقطة إنطلاق أولى. ونجحت في «طوفان الأقصى» في أن توسّع عملياتها إلى مستوطنات الطوق، وإلى ما بعدها وصولاً إلى معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة. هذه العملية وما سبقها من عمليات للمقاومة في الضفة والقطاع وداخل الخط الأخضر أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة بعد المحاولات الغربية والصهيونية لإنهائها عبر «صفقة القرن» و«اتفاقات أبراهام» وغيرها من المحاولات المتكررة لطي القرارات الدولية.
التهجير وإنهاء «حل الدولتين»
مع إعلان حالة الحرب في الكيان تكرّر بشكلٍ كثيف الحديث والترويج لتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء وبدت الفكرة بالنسبة للصهاينة بوصفها «حلاً وحيداً» لا لغزّةَ وحدها، بل لإنهاء الحديث كلياً عن إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، فتم إيجاد سلطة فلسطينية شكلية في الضفة، عاجزة عن إيقاف خطط الاستيطان وتعمل كأداة وشرطي بيد الاحتلال حوّلها لـ «صيغة مقبولة» من جانبه ويجب تعميمها على كافة الأراضي المحتلة.
في الوقت ذاته، ظلّ قطاع غزة النموذج الوحيد الأولي الذي يمكن أن يعوّل عليه الفلسطينيون لقيام دولتهم المستقلة، وبالتالي كانت فكرة إنهاء القطاع عبر تهجير سكانه بالنسبة للكيان كفيلة بإنهاء أي حديث عن «حل الدولتين» لكون هذا الحل وفي ظل الظرف الدولي الحالي بمثابة كابوس حقيقي بالنسبة لـ "إسرائيل" التي تعيش أزمة وجودية هي انعكاس لأزمة كبرى يعاني منها داعميها. لكن هذا الظرف الدولي ذاته كان كفيلاً بإنهاء فكرة التهجير من أساسها بعد أن رفضتها الدول العربية الأساسية وقوى إقليمية كبرى مثل إيران وتركيا إلى جانب قوتين دوليتين هما روسيا والصين، وبالارتكاز بطبيعة الحال إلى الأساس الذي لا معنى لأي موقف خارجي دونه، أي لقوة المقاومة ووجودها وفاعليتها.
إن سلسلة من الإخفاقات العسكرية والسياسية للنظام الرسمي العربي، وما تلاها من انقسام فلسطيني واقتتال بين أبناء البلد الواحد، جعل من طروحات كانت أقل من آمال الفلسطينيين المشروعة باستعادة دولتهم تبدو كما لو أنها «أحلام بعيدة المنال»، ومع ذلك ظلّت القرارات الدولية معطلة ومحتجزة داخل الأروقة الغربية، التي وإن لم تستطع منع صدور قرارات مثل 242 عام 1967 إلا أنها استطاعت إعاقة تنفيذه لعقود.
اليوم نعيش ظرفاً مختلفاً بتوازن دولي جديد سيفرض ظرفاً جديداً مناسباً لتنفيذ كل القرارات المعطلة. فالقصف العنيف وأي محاولة لاحتلال غزة لن تكون إلا تعبيراً واضحاً عن شدّة الصفعات التي يتلقاها الكيان. والعنف الوحشي والجرائم البشعة التي يعاني منها الفلسطينيون اليوم ما هي إلا مخاض الولادة، فبعد أن اعتدنا في هذه المنطقة أنه بعد كل عدوان صهيوني تأتي خسارة سياسية جديدة، قدّمت السنوات الماضية نموذجاً مختلفاً، لم يعتده الكثيرون بعد؛ حيث تكون الانتصارات وتحديداً السياسية منها هي السمة الجوهرية. وحينها تصبح «الأحلام بعيدة المنال» واقعاً قريباً بملامح تتضح تريجياً، حينها فقط ستكون دولة فلسطين المستقلة مكسباً للفلسطينيين ومدخلاً لحل عادلٍ لقضيتهم.