ما هو مصير كامب ديفيد بعد «الطوفان»؟

ما هو مصير كامب ديفيد بعد «الطوفان»؟

منذ عام 2019، ومع تتالي ما سمي «اتفاقات أبراهام»، جرى الترويج بكثافة للمقولة التالية: «الغرب وخاصة الأمريكان، يستغلون حالة الضعف والفوضى السائدة في الشرق الأوسط، لكي يحلوا على طريقتهم، مرة وإلى الأبد، القضية الفلسطينية؛ والحل على طريقتهم هو تصفيتها نهائياً، واتفاقات التطبيع هي الطريق نحو هذه الغاية».

هذه المقولة لم تقتصر على ساسة الغرب وإعلامه ومعهم الصهاينة فقط، بل وللأسف فإنّ عدداً غير قليل من «القوى التقدمية» قد كررتها بشكلٍ أو بآخر.

 حقيقة الأمر كانت منذ اللحظة الأولى في مكان آخر تماماً؛ نتيجة التراجع العام للغرب ضمن موازين القوى الدولية الجديدة، وهو التراجع الذي كان واضحاً أنه سيستمر وسيتعمق، فإنّ واشنطن كانت تعمل على تأمين حماية لقاعدتها وأداتها الأهم في المنطقة بشكلٍ استباقي عبر اتفاقات التطبيع.

 أي أنّ اللوحة في الحقيقة معاكسةٌ لما جرى الترويج له؛ فالذي يعيش مرحلة انحسارٍ وضعفٍ هو الكيان وهو واشنطن، وليس القضية الفلسطينية. ومن تتهدده التصفية هو المشروع الصهيوني وليس القضية الفلسطينية... والفارق بين طريقتي النظر والتحليل فارقٌ كبيرٌ يؤثر تأثيراً ضخماً على كيفية فهم ما يجري وعلى توقع ما سيأتي وعلى بناء السياسات وفقاً لذلك؛ فالانطلاق من أنّ قطب الشعوب يعيش حالة تراجع وهزيمة، يعني ضرورة التمترس في الدفاع، والانطلاق من أنّ المرحلة هي مرحلة تقدم وانتصار يعني الانطلاق نحو الهجوم... وشتان بين الوضعين.

 أياً يكن الأمر، فقد بات من الواضح أمام الجميع الآن، أنّ «اتفاقات أبراهام» قد تعرضت لضربة ضخمة لن يكون من السهل بأي حالٍ من الأحوال تجاوزها؛ وذلك بغض النظر عن رغبات المطبعين. وما نراه من تحركات شعبية في المغرب والبحرين والأردن وإلخ هي مؤشر هام، والمؤشر الأكثر دلالة هو اضطرار بعض حكومات التطبيع إلى اتخاذ إجراءات «مخففة قدر الإمكان» ضد الكيان، من نوع سحب السفراء.

 ماذا عن كامب ديفيد؟

إذا استخدمنا الاستقراء استناداً إلى ما جرى حتى الآن وإلى اتجاه تطور الموازين على المستوى الإقليمي والدولي، لن يكون من الصعب علينا -وبغض النظر عن رأي أو رغبات وتركيبة النظامين المصري والأردني- أن نرى أنّ اتفاقي كامب ديفيد ووادي عربة هما أيضاً على وشك أن يتم وضعهما على طاولة البحث التاريخي مجدداً.

 فلننظر إلى ما يجري على الحدود المصرية مع قطاع غزة، وما يجري في إطار العلاقات الثنائية بين الكيان ومصر؛ وفقاً لكامب ديفيد فإنّ سيناء بأكملها، والتي تعادل مساحتها حوالي ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين التاريخية، هي منطقة شبه محرمة على الجيش المصري. حيث جرى تقسيمها إلى أربع مناطق (أ، ب، ج، د)، حيث د هي المنطقة المتاخمة للحدود الفلسطينية في غزة. وتم تحديد العدد المسموح به للقوات المصرية في تلك المناطق، ونوعية السلاح المسموح وجوده.

 أول مرحلة في «خرق كامب ديفيد»، أو بصورة أدق، في خرق هذا البند في كامب ديفيد، كانت قد جرت خلال المعارك التي خاضها الجيش المصري مع مجموعات إرهابية في سيناء أهمها داعش، وقد جرى ذلك في إطار اتفاق بين الكيان ومصر، ولذا لا يمكن أن يعد «اختراقاً» لكامب ديفيد، ولكنه بالتأكيد «تعديلٌ» غير مكتوب.

 بعد الطوفان، رأينا الدبابات والمدرعات المصرية قد وصلت إلى الحدود تماماً مع غزة عند معبر رفح. وترافق ذلك مع مناوشات غير مباشرة تضمنت رسائل بالنار، بما فيها ضربة من دبابة «إسرائيلية» باتجاه جنود مصريين وآليتهم، أدت لإصابة تسعة جنود، اعتذرت إسرائيل عن الضربة وقالت إنها حصلت بالخطأ، ولم يتم قبول الاعتذار وجرت ضربة من دبابة مصرية بعد يومين أدت لإصابة جندية إسرائيلية، وقالت السلطات المصرية إنها حدثت بالخطأ... وكذلك وبالتوازي، فإنّ الإسرائيليين قد قطعوا وصول الغاز إلى مصر، والذي كان جزء منه يتم استهلاكه محلياً وجزء يجري تسييله ونقله باتجاه أوروبا.

 بالمختصر، فإنّ حالة تصعيدٍ تدريجية تجري على الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة. وربما يفسر البعض هذا كلّه بأنّ السلطات المصرية تضع دباباتها وقواها على الحدود بهدفٍ واحدٍ هو منع تهجير الفلسطينيين من غزة، ليس من أجلهم بل «حماية للأمن القومي المصري». ولكن حتى إذا ركنا إلى هذا التفسير، فإنّ له ما وراءه:

 تشعر السلطات المصرية بأنّ الأمن القومي لمصر مهدد فعلاً، ولو افترضنا أنّها تعتبر دخول أهل غزة باتجاهها هو التهديد الأكبر، فإنّ المسؤول عن هذا التهديد هو الكيان الصهيوني الذي يدفع بكل ما يستطيع نحو حدوث هذا التهجير.

 بكلامٍ آخر، فإنّ الصهيوني اليوم يظهر في عيون قسمٍ على الأقل من السلطات المصرية، وبغض النظر عن أي تقييمات أخرى، بوصفه تهديداً للأمن القومي المصري، بل وبوصفه التهديد الأول. ورغم أنّ هذا الأمر ينبغي أن يكون مفهوماً وواضحاً ليس اليوم فقط بل ودائماً، وهو مفهوم وواضح بالنسبة للشعب المصري، ولكنّ الأمر بالنسبة للسلطات على المستوى المعلن وغير المعلن، لم يكن كذلك طوال سنوات بل وعقود مضت منذ كامب ديفيد؛ فقد باتت تهديدات الأمن القومي تتمثل تارة في سد النهضة وتارة في الوضع الليبي وأخرى في السوداني ورابعة في الإرهاب الداخلي وإلخ... ولكن «إسرائيل» لم تكن حتى ضمن قائمة التهديدات، وهي الآن على رأسها... وهذا الأمر لن يتغير بسهولة بعد انتهاء الحرب الجارية حالياً.

 بكلمة، فإنّ كامب ديفيد التي يتم خرقها فعلياً ولا يكاد يتحدث أحد عن ذلك، سيتواصل خرقها وسيشتد، لأنّ كل الاتفاقات التي جرت في مرحلة التراجع والهزائم، أي في النصف الثاني من القرن العشرين، باتت الآن مجدداً على الطاولة، وستخضع مع الوقت لنسفٍ كامل أو لإعادة صياغة جذرية...

آخر تعديل على الأربعاء, 04 أيلول/سبتمبر 2024 14:22